العدد العاشر لسنة 2018
أدباء منسيون
من بلادي/ الجزء الثالث
الحلقة الأولى
الشاعر أحمد
الصافي النجفي
تقديم / علاء الأديب
التقديم:
..........
شاعر عاش
الفاقة والمرض والتشرّد بين البلدان.
تمرّد على
تعصّب مدينته الذي كان يمع حتى التصفيق لشاعر في أمسية شعريّة.
ولد من أب
حجازي الأصول وأم لبنانية في مدينة النجف في العراق.
ناضل وجاهد
وجابه الإستعمار البريطاني للعراق. وزج في السجون .
عاش عيشة
الكفاف في العراق وسورية ولبنان .
خمسون عاما من
عمره وهو شريد بين لبنان وسورية يلتحف أوراق الجرائد في الشتاء ويفترشها في الصيف.
مصباح غرفته
الصغيرة في المنفى للدفء وللنور.
ترك للعراق
ثروة أدبية لاتقدر بثمن .
كتب في كلّ
أغراض الشعر العربي حتى لقب بشاعر العرب.
قتل بإطلاقات
قناص وهو يبحث عن رغيف خبز بعد جوع خمسة أيام في بيروت إذ بان الحرب الأهليّة التي
عاش أيامها هناك.
هذا هو شاعر
العراق أحمد الصافي النجفي رحمه الله.
نسأل الله
تعالى أن يوفقنا في أعادة مايمكننا أن نعيده للذكرى.
علاء الأديب
الولادة
...........
ولد الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي
سنة 1897 في مدينة النجف بالعراق ، لأب من أسرة حجازية الأصل وأم لبنانية من مدينة
صور . فنشأ في جوّ حافل بالعلم والأدب في مدينة النجف التي اختلط فيها رواد الشعر والأدب
بطلاب العلوم الدينية والمناضلين في سبيل استقلال وطنهم ، وقد اجتمع كل هؤلاء لديه
حين انتهى من دراسته الدينية وحصوله على شهادة عالية في الشريعة . ولكن أحمد الصافي
آثر أن يثقف نفسه بنفسه وأن يعيش على هواه .
وفاة أمه وانخراطه بالعمل
السياسي :
..........................................
فما إن توفيت والدته وهو في السابعة
عشرة من عمره حتى انخرط في الحياة السياسية التي يهواها ، فاهتم بالقضايا السياسية
الكبرى ، فانضم إلى حلقات المناضل الشيخ عبد الكريم الجزائري ، ومن تلك الحلقات انطلقت
شرارة ثورة العراق سنة 1919 التي سرعان ما قمعها المستعمرون الإنجليز ، مما اضطر شاعرنا
أحمد الصافي النجفي إلى الالتجاء إلى إيران والإقامة بها .
حياته في طهران:
........................
وما أن وصل إلى طهران عاصمة إيران
واستقر فيها حتى راح يتعلم اللغة الفرنسية ، ويعلم اللغة العربية من يريد تعلمها .
وقد عاش في طهران ثماني سنوات ترجم خلالها إلى اللغة العربية رباعيات الشاعر الفارسي
الكبير عمر الخيام . ثم عاد أحمد الصافي النجفي خلسة إلى العراق ، وراح ينظم الشعر
الوطني- يهاجم فيه الاستعمار والمستعمرين- حتى ألهب الحماس في قلوب العراقيين .
النجفي معتقلا في بيروت:
................................
ما أن اكتشف الإنجليز أمره حتى اعتقلوه وأرسلوه مخفوراً إلى المعتقل في بيروت
، حيث أمضى أربعين يوماً كان حصادها المبارك مجموعته الشعرية التي أسماها " حصاد
السجن " والتي أهداها إلى الشعب العراقي المكافح .
العودة الى العراق ومنه الى
التشرد :
........................................
ومن معتقله في بيروت عاد إلى العراق . ولكن
لم يستقر به المقام حتى أصيب بمرض نصحه الأطباء على إثره أن يغادر العراق إلى مكان
آخر أقل جفافاً . فبدأت رحلة تشرده الطويلة منذ سنة 1935 بين سوريا ولبنان واستمرت
حتى لحظة رحيله عن الحياة . تلك الرحلة التي تواصلت حوالي خمسة وأربعين عاماً عاش خلالها
للنضال السياسي، وللشعر والفن ، وقضى أكثرها في لبنان حيث كان دائم التنقل وكتابة الشعر
والاختلاط بالأصدقاء ، وحيث أصدر حوالي سبعة عشر ديواناً من الشعر .
الحرب الأهليّة في لبنان:
..............................
حتى كانت الحرب الأهلية في لبنان التي أفقدته
توازنه بسبب غرابتها وبسبب عجزه عن فهم أسبابها تماماً . فاضطر في مطلع سنة 1977 للعودة
إلى العراق . ولم تمض شهور قليلة على عودته إلى وطنه حتى رحل عن الحياة في السابع والعشرين
من شهر يونية (حزيران) سنة 1977 وهو في الثمانين من عمره ، بعد أن ترك تراثاً شعرياً
خصباً ، وترجمة دقيقة لرباعيات الخيام الخالدة ، وقد صدرت بعد رحيله مجموعته الشعرية
" قصائدي الأخيرة " التي تضم آخر ما كتب من قصائد.
صحيفة موضوع
دراسة الصافي النجفي:
.............................
درس النجفي علم الكلام، وقواعد اللغة، والمعاني،
وشيئاً من الفقه على يد العديد من الأساتذة المعروفين في نجف، وعرف عنه قوله للشعر
في سنّ مبكّرة، ثم انتقل إلى البصرة عندما بلغ من العمر عشرين عاماً في بداية الحرب
العالمية الأولى للبحث عن العمل، إلا أنّه لم يحظَ بفرصى للعمل بسبب ضعف صحته وبنيته،
الأمر الذي دفعه للانتقال إلى عبادان، ثمّ إلى الكويت، إلا أنه عاد بعد عدة أشهر قليلة
إلى نجف، حيث بدأ بدراسة اللغة العربية وفنونها
الصافي النجفي والثورة على بريطانيا
:
............................................
شارك أحمد الصافي النجفي مع أخيه الأكبر في ثورة
نجف ضد الاحتلال البريطاني في عام 1918م، وحكم على أخيه بالإعدام في عام 1920م، إلا
أنّه تمّ تخفيف الحكم للسجن، وقد سجن النجفي أيضاً في ثورة رشيد عالي الكيلاني عام
1941م بعد فشل الثورة، ثم عاد خلسة إلى العراق، وبدأ بكتابة الشعر الوطني الذي يهاجم
فيه المستعمرين والاستعمار، بالإضافة إلى أنه تمكّن من التخفي والذهاب من منطقة إلى
أخرى، ثم انتهى به الأمر بالهرب إلى إيران، والمكوث فيها لدراسة اللغة الفارسية .
عمل أحمد الصافي النجفي ومرضه
...........................................
عمل فيها مدرساً للأدب العربي، ثم ترك مهنة
التدريس، وبدأ العمل في الصحف الإيرانية بالتحرير والترجمة، ثم عاد إلى العراق بعد
ثمان سنوات، وقد تعرض النجفي في تلك الفترة للعديد من المشاكل الصحية، مما دفع العديد
من الأطباء بنصحه للذهاب إلى لبنان أو سوريا، نظراً لمناسبة مناخهما، الأمر الذي يساعد
على الشفاء، ووصل إلى سوريا في فصل الصيف لعام 1930م، وأقام فيها لعدة سنوات، حيث قضى
أربعة وستون عاماً متنقّلاً بين لبنان وسوريا.
الصافي النجفي والنجف:
................................
كان للنجف دور تنويري كبير على مدار تاريخها.
تجاوز دورها الفقهي الديني. ومنها خرج كبار مثقفي العرب شرقا وغربا، ونشروا لغة بديعة
وخيالا متفوقا ونهضة لم تكن لتستقيم نهضة العرب من دونها. لكن دور النجف غاب مع الوقت.
وتم تحويلها إلى موقع ديني للعبادة والتأثير في القرار السياسي من خلال المرجعيات،
أكثر من كونها مركز تأثير حضاري شامل ..
عاش الصافي فيها بين الزهد والتقشّف والشقاء،
بين الشعر والنضال والمقاومة، ظل يدافع عن حريّته الشخصية كاملة، غير منقوصة، وعن حريّة
شعبه وكرامته من دون سلطة للاحتلال البريطاني..
الصافي
ورحلة المرض والعلاج:
.........................................
كان في طريقه برحلة علاج إلى بلاد أخرى،
فمرّ بدمشق عام 1930 وقرر المكوث فيها منذ تلك اللحظة، ستة وأربعين عاما. وبين دمشق
وبيروت، كان يجوب المقاهي نهارا، الهافانا ومقهى الكمال والروضة، وفي الليل يذهب إلى
غرفته الصغيرة في زقاق ضيّق من سوق الحميدية “زقاق الخيّاطين”، وكانت حياة التقشّف
خيارا بالنسبة له، مخافة أن يغادر دمشق، وهو لا يريد ذلك.
الصافي يرفض أن يستلم مرتبا
...........................................
عرف عنه رفضه الدائم لأن يستلم مرتّبا شهريا
من حكومات العراق المتعاقبة، ما دامت بلاده تحت سلطة الاحتلال. رغم العروض الكثيرة
المتكررة من رجالات السياسة، ومن بعض رموز قوى اليسار العراقي وقتئذ. كما كان يرفض
أن تقام له الأمسيات المبهرجة والاحتفالات التكريمية، رغم إلحاح الكثيرين من الأدباء
السوريين والعرب. وحتى أوائل الستينات، بعد أن تدهورت حالته الصحيّة، وبإلحاح من سفير
العراق في بيروت ناصر الحاني تقبّل أن يستلم مرتّبا شهريا، ولكن من دون شروط تحد من
حريته أو تصادرها أو تلزمه بتغيير أسلوب حياته ومواقفه..
كان ذلك المرتب الشهري يتبخّر في الأيام
الأولى من كل شهر، في مقهى الهافانا الدمشقي، حيث يوزعه على كل محتاج يسأله ذلك من
معارفه وأصدقائه، يلتحف ظهرا بالصحف التي يدوّن على حواشيها ملاحظاته، ومفاتيح قصائده،
يغطي بها جسده النحيل، إن كان ثمة برد، ويغفو على كرسيه في المقهى. وفي الليل في غرفته
الموحشة، يحوّل تلك الملاحظات إلى مقالات وقصائد شعر..
الصافي وثورة النجف الكبرى:
..................................
كتب الشعر في سن مبكرة، وقاد مع أخيه الأكبر
محمد رضا عام 1918 انتفاضة شعبية ضد الاحتلال البريطاني، والتي سُميت بثورة النجف الكبرى،
فحكم على أخيه بالإعدام، ثم خفف الحكم لاحقا إلى السجن المؤبد.
إعتقله الفرنسيون في لبنان:
.................................
تحديه لتقاليد النجف يدفعه إلى القول عنها
قبل أن يغادرها "بلدتي النجف تليق بأن يقطنها العجائز والشيوخ فقط" بعدها
عاش النجفي عمرا مديدا مليئا بالمغامرات الشجاعة، فقاد التظاهرات ضد الاحتلال البريطاني
في ثورة العشرين، واعتقله الفرنسيون في لبنان.
.
تأثير النجفي في طهران
................................
عمل مدرسا للأدب العربي في مدارس طهران
الثانوية، لكنه سرعان ما ترك التدريس وتفرّغ للترجمة والعمل الصحافي، وبلغ مكانة كبيرة
في تلك البلاد، حتى أنه عيّن عضوا في لجنة التأليف والترجمة في وزارة المعارف الإيرانية،
وترجم إلى الفارسية كتاب “علم النفس” لعلي الجارم، وكذلك كتابات أحمد أمين .
الصافي
وأجمل ترجمة لرباعيات الخيام:
...............................................
ترجم إلى العربية “رباعيات الخيام”، ترجمته
تلك تعتبر برأي جميع النقّاد تقريبا من أدق وأجمل الترجمات للرباعيات، رغم شيوع ترجمة
أحمد رامي، بحكم تقديمها كأغنيات على لسان سيدة الطرب العربي أم كلثوم..
الصافي قاضيا في الناصريّة :
......................................
عاد النجفي إلى بغداد بطلب من الحكومة العراقية،
ليعيّن قاضيا في مدينة الناصرية لثلاثة أعوام، بعدها ساءت حالته الصحية، فنصح بالسفر
والعلاج، لتبدأ رحلته نحو المشرق العربي هذه المرة.
الصافي ومناخ النجف المحافظ
........................................
يعتبر النجفي واحدا من أبرز وأندر شعراء
العربية. حيث يصعب الفصل بين حياته وشعره، بين بداياته ونهاياته. فهو أوّل من تمرّد
على تقاليد مدينة النجف المحافظة عبر العصور، بتحريمها التصفيق في الأمسيات الشعرية
والأدبية. وقد حدث أن اتفق الصافي مع شاعر شاب متمرّد آخر يدعى “صالح الجعفري كاشف
الغطاء”، على أن يباشر الصافي بالتصفيق بين الحضور، حالما ينهي الأخير قوله على المنصّة
“فحيّوا بالسلام مصفقينا”، وفعلا صفّق الصافي في تلك الأمسية كما اتفقا، وتلاه الشباب
في الصالة بعاصفة من التصفيق، فشكاه الكثيرون بعدها لأخيه الأكبر وعند المؤثرين في
المدينة، وقد صار هذا حدثا فريدا في مدينة النجف يومها، فضاق الصافي النجفي ذرعا بكل
تلك التقاليد والعادات المتوارثة، وقال إن “النجف اليوم بلدة تليق بأن يقطنها العجائز
والشيوخ فقط.”
الصافي ينوب أساتذته في التدريس:
.........................................
يتداول عنه النجفيون حتى اليوم قصصا نادرة،
حيث يقال بأنه كان ينوب (منذ صغره) عن الأستاذ في تدريس اللغة العربية، ودروس الخط
وسواهما.
الصحف التي نشر فيها الصافي
أشعاره:
...............................................
كما كان ينشر الشعر والمقالات منذ بداياته، في مجلتي
“الهلال” و”المقتطف” المصريتين ذائعتي الصيت والانتشار وقتئذ في جميع أقطار الوطن العربي
.
أسوار النجف القديمة تخفي خلفها طاقة الرفض
و التغيير التي أريد لها أن تتوقف اليوم
الصافي وعشقه لدمشق:
..............................
في عام 1930 حين قرر أحمد الصافي النجفي
البقاء في دمشق، قال
“أتيتُ جلّقَ مجتازا على عجل
فأعجبتني، حتى اخترتها وطنا
يكادُ ينسى غريب الدار موطنَه
في ربعها، ويعاف الأهل والسَّكَنا”
عشق دمشق حدّ التماهي، حدّ الغيرة عليها،
فقال عنها
“هذا الجمال عليك جرَّ مصائبا
إنّ الجمال على ذويه وبالُ
قد كان يعطيك المحب فؤادهُ
لو عزّ منك على المحب وصالُ
الصافي بين المعري والمتنبي
والخيام:
..............................................
كان يجل تجربة المعرّي الفلسفية والشعرية
والحياتية، ويعشق شعر المتنبي، وأبي نواس
“ولي روح بظُرف أبي نواس
ولكن في وقاري كالمعرّي”،
وهام بشعر عمر الخيام.
موقفه من الألقاب وأمير الشعراء:
..........................................
ولم تعجبه ظاهرة الألقاب التي كانت تمنح
للشعراء في عصر الخديويين في مصر، فقال عن وصف أحمد شوقي بأمير الشعراء حين سألوه عن
ذلك “ليس للشعر من إمارات وسلاطين”، وحين سألوه
“ها هو أمير الشعراء، فمن أنت؟”، أجاب
“قالوا: وأنت؟ فقلت ذاك أميركم/ وأنا الأميرُ لأمّة لم تخلق”
أقرب أصدقائه في مقاهي دمشق:
........................................
في مقهى الهافانا الدمشقي كان يتجمع حوله
كل عشاق الأدب والفلسفة يوميا. وزوّاره يأتونه من كافة الدول العربية، وكان أقرب أصدقائه
في دمشق، عبدالسلام العجيلي وفخري البارودي وبدوي الجبل وعمر أبوريشة وأحمد الجندي
وسعيد الجزائري.
أقرب أصدقائه في مقاهي بيروت :
.......................................
أما في مقاهي بيروت (مقهى البحرين، مقهى
فاروق، مقهى الحاج داوود)، فكان من صحبه ميخائيل نعيمة، الشاعر القروي، مارون عبود،
وآخرون.. كان يدوّن قصائده على حواشي الصحف، وعلى أغلفة علب السجائر، ويحررها ليلا
في غرفته على ضوء مصباحه الوحيد، الذي يتدفأ به أيضا.
لقاءه بالسيّاب في دمشق:
..............................
زاره بدر شاكر السيّاب مرة في مقهى الهافانا،
ونشر عن تلك الزيارة وتجربة الصافي الفريدة مقالا مطولا في مجلة “أهل النفط” البغدادية
.
الصافي شاعر المعاني:
.............................
قيل عنه إنه شاعر المعاني، بتصويره البليغ
لسيرته وتمرّده وشجونه وسجونه. لم يهتم يوما بما يشاع ويقال عن الشعراء الآخرين من
مجايليه، عاشق لعروبته. من دون أن ينتمي لحزب. أو يتعصّب لعقيدة ما.
الصافي والزيّ العربي:
...............................
بقي يعتمر الكوفية والعقال والجلابية، كلباس
عربي بسيط، من دون زخرفة أو تكلّف، وقد رافقت حياته علل السقم واليتم والحرمان، وقال
عن ذلك
أسيرُ بجسم مشبه شبه ميّتٍ
كأنّي إذا أمشي به حاملا نعشي.
الضوء للدفء والقراءة :
............................
وعن شركائه في سكنه، في غرفة سوق الحميدية
والضوء الذي يقرأ ويكتب ويتدفأ به وعليه، قال
أصارع البرد في سراجٍ
يكاد من ضعفه يموتُ
في غرفة ملؤها ثقوبٌ
أو شئت قل ملؤها بيوتُ
يسكن فيها بلا كراءٍ
فأر وبقّ وعنكبوتُ
هذي نداماي في الدياجي
عاد بها شملي الشتيتُ
السجن في بيروت:
........................
عام 1941 قاد عدّة مظاهرات في دمشق وبيروت،
تأييدا لثورة رشيد عالي الكيلاني ضد الاحتلال البريطاني للعراق، فسجن في بيروت أربعين
يوما، تحت إدارة الأمن العام الفرنسي، وكتب في السجن ديوانه الشهير “حصاد السجن” الذي
قال فيه
رمونا في السجون بلا أثاثٍ
فأصبحنا لسجنهم أثاثا
وبسبب تدهور حالته الصحية، أبرق الفرنسيون
إلى حكومة العراق وأطلق سراحه على إثرها، فقال
أرى في غربة الإنسان سجنا
فكيف بسجن إنسان غريب؟
رصاصات القنص في بيروت تغتال
الصافي :
...........................................................
كان الشاعر النجفي في بيروت حين اندلعت
الحرب الأهلية هناك، وكان يقيم في غرفة متواضعة أيضا، بالقرب من مشفى “أوتيل ديو”،
وكان يسير بمحاذاة الجدران في الشوارع، تحسبا من الرصاص الطائش، لكنه في ليلة من منتصف
عام 1976، وبعد أن مكث في غرفته خمسة أيام من دون طعام، وبعد أن اخترق الرصاص جدار
غرفته، قال :
بين الرصاص نفذتُ ضمن معارك
فبرغم أنف الموت ها أنا سالمُ
خرج يبحث عن رغيف خبز، أو طعام ما، فأصابه
قنّاص بعدد من الرصاصات اخترقت جسده النحيل، فسقط بعد بضع خطوات أمام منزل جاره، الذي
سارع بالاتصال بالسفارة العراقية في بيروت، وأعلمهم بما حدث، فنقلته سيارة خاصة إلى
مشفى “المقاصد” للعلاج، ففقد بصره أول الأمر، ثم نقل إلى بغداد، وحال دخوله العاصمة
عن طريق المطار، قال
يا عودة للدار ما أقساها
أسمع بغداد ولا أراها
وبقي في مشفى مدينة الطب عشرة أيام، أجريت
له خلالها عملية جراحية لاستخراج رصاصة في صدره، وقد نجحت العملية،
لكن جسده المنهك أصلا لم يقو على تحمّل الألم والأوجاع
المتتالية، فتوفي في السابع والعشرين من يوليو 1977 ولم تكرر مثله الأجيال بعد .
قصة ترجمة الصافي لرباعيات
الخيام في ايران:
...........................................................
في العشرين من عمره اشترك الصافي مع صديقه
عباس الخليلي في التجارة فاشتريا محتويات سفينة جاءت من البصرة إلي الكوفة محملة بالأقمشة
وهي أول سفينة أتت من البصرة عقب احتلال الإنجليز لبغداد، وحين حُكم علي صديقه الخليلي
بالاعدام لاشتراكه في ثورة العشرين المعروفة (30/6/1920) تسلم الصافي البضاعة خوفاً
من مصادرة سلطة الاحتلال لها، وحين دوهمت بيوت آل الخليلي بحثاً عن عباس الخليلي الهارب
دُوهم بيت الشاعر أيضاً فخاف الصافي علي نفسه وفرَّ إلي إيران ملتحقاً بصديقه الذي
وصلها قبله ليستقر فيها وفي مدرسة (مرو) بشارع ناصر خسرو في قلب العاصمة طهران حصل
الصافي علي غرفة مستقلة مع مخصصات شهرية مكنته من العيش إلي حد ما فجدَّ في تعلم اللغة
الفارسية وقرأ بها الكثير من الأدب الفارسي حتي أتقنها بصورة جيدة وانكبَّ علي رباعيات
عمر الخيّام التي عشقها من قبلُ ووجد أنها أكثر من أربعمائة رباعية وبدأ بترجمتها بشغف
وحبّ شديدين ليحقق حلمه القديم والتقي الصافي النجفي بكبار رجال السياسة والعلماء والشعراءووجوه
البلد في ديوان أحد الوجهاء الإيرانيين عن طريق صديقه القديم عباس الخليلي فعرفوا فضله
ومقدرته الأدبية والعلمية خاصة بعد أن أتم ترجمة رباعيات الخيام وكانت أجود ترجمة لرباعيات
الشاعر الفيلسوف عمر الخيام علي يديه.
بهار والقزويني من أشد
المعجبين بترجمة الصافي للرباعيات:
.....................................................................
كان بهار من أشد المعجبين بهذه الترجمة وهو الشاعر الذي احتلَّ في اللغة الفارسية منزلة
(أحمد شوقي) أمير الشعراء في اللغة العربية،
وكان العلاّمة الكبير محمد القزويني الذي درس عليه
الدكتور مصطفي جواد بباريس أيام دراساته العليا في (السوربون / فرنسا) في مقدمة المعجبين
بهذه الترجمة،
القزويني قدّم للرباعيات :
...............................
ولإعجاب القزويني هذا قيمة كبيرة في عالم
الأدب بصفته أحد العلماء المتضلعين باللغة العربية وآدابها فضلاً عن تضلعه باللغتينِ
الفارسية والفرنسية وكن نتيجة هذا الاعجاب بترجمة الصافي لرباعيات الخيام أن تولي السيد
القزويني تقديم هذه الترجمة بقلمه، والتي طبعت خمس مرات وبثلاثمائة وإحدي وخمسين رباعية
بمتانة جيدة وتعبير دقيق لأغراض الشعر وعلي أثرها قُلّد وسام العضوية في النادي الأدبي
بطهران وعمل في الصحافة والترجمة كما درَّس الأدب العربي في جامعة طهران وبعد سبع سنوات
قضاها في إيران عاد إلي النجف الأشرف عام 1927 م، وكان له علاقة كبيرة برباعيات الخيام
المترجمة ويحملها معه في حلّه وترحاله فهي معه أثناء عودته إلي النجف الأشرف ومنها
إلي بغداد وأخيراً في حقيبة سفره مع أشعاره إلي سوريا فلبنان لكثرة تعلقه وشغفه بها
.
الصافي يرفض مبلغا مغريا
لإعادة طبع الرباعيات:
..............................................................
رفض الصافي استلام مبلغ (500) دينار عراقي
من بعض دور النشر في بغداد وبيروت لاعادة طباعة ترجمته لرباعيات الخيام مُعلّلاً ذلك
أنها كانت تردد علي أفواه الجهلة في نوادي اللهو والمجون ولأنّ رباعيات الخيام أرفع
وأسمي من ذلك. ونذكر هنا إحدي الرباعيات المترجمة لشاعرنا الصافي النجفي (رحمه اللّه
)
قد انطوي سفرُ الشبابِ واغتدي ربيعُ أفراحي
شتاءً مُجدبا
لهفاً لطيرٍ كانَ يدعي بالصِّبا متي أتي وأيّ وقتٍ ذهبا
صاحب الرباعيات:
.......................
صاحب الرباعيات الشهيرة العارف الحكيم أبو
الفتح عمر بن إبراهم الخياميّ النيشابوري فيلسوف ورياضي ومنجم وشاعر إيراني عاش في
نهاية القرن الخامس الهجري وتعود شهرته الواسعة في العالم إلي شعره الرباعي في حين
كان اهتمامه العلمي يفوق اهتمامه الأدبي والشعري بشكل خاص بل إنّه كان يلجأ إلي الشعر
حينما كانت تداهمه موجة من الارهاق والتعب حسب ما يذكره لنا التاريخ من شدة الانهماك
العلمي ويتخذ من الشعر الوجداني وسيلة للراحة لما فيه من إيقاعات موسيقية وآفاق واسعة
تثير البهجة والسرور في أعماق النفس فيرتمي في أحضانها هرباً من الجدية العلمية ذات
العناء الشديد فكان حصيلة ذلك الهروب اللطيف تلك الرباعيات الجميلة التي طبقت شهرتها
الآفاق حتي ترجمت إلي عدة لغات عالمية بعد أن شغف بها العديد من العلماء والشعراء في
شتي أنحاء العالم ومن بينهم شاعرنا المبدع أحمد الصافي النجفي.
أحمد الصافي ونماذج من أشعاره
الإيمانية
...................................................
ولشاعرنا أحمد الصافي أشعار كثيرة تنبعث
منها الروح الإيمانية بجلاء، والتي نقتبس منها مقتطفات لمقالنا هذا، فشاعرنا المرحوم
كان يبدو في فترات من خلوات حياته إنساناً متفكراً أقرب إلي الصوفي المتأمل بعظمة الوجود
وخالقه العظيم، فيقول شعره في اللّه عزّ وجلّ والإسلام رقيقاً خاشعاً وكأنما يستغفر
ربّه تائباً من ذنبه لعلّة انشغاله في حياته الطويلة عن التعبد، وكثيراً ما كانت أشعاره
تذاع من الاذاعة اللبنانية في بيروت آنذاك في السبعينات. وتنشر في مجلتها «هنا بيروت»
والتي كنت أواظب علي مطالعتها وقتذاك، ومن تلك القصائد الفريدة «التقاعد المضمون» يناجي
فيها ربّه بنبضات عرفانية جميلة وضمان تقاعده عند اللّه سبحانه وتعالي في رضاه عنه
الذي لا يثمن بأي راتب تقاعدي، ومن تلك الأشعار قصيدته «اللّه » نلاحظ فيها النبضات
العرفانية والعقائدية :
راح يقوي علي المدي إيماني
فبربي قد إمتلا وجداني
قيل لي هل عرفته بدليل
أو بحسٍّ أو عيانِ
قلت كلا إيمان قلبيَ أقوي
من دعاوي الحواسِ والبرهانِ
واضح لي وضوح روحي
وعقلي ماثل في مداركي ككياني
هو رمز الوجود سرّ التجلي
هو روح الأكوان معني المعاني
كلما عفته رجعت إليه
كرجوع الأفياء للأغصانِ
فاعتقادي باللّه روح وجودي
وجحدي له انتحار ثانِ
ممسك بي وإن تخليت عنه
حافظ لي وإن تركت عناني
أحمد الصافي وقضية فلسطين
..........................................
ولشاعرنا الكبير أحمد الصافي مواقف وطنية
رائعة تظهر عليه بوضوح في أشعاره منها ما قاله في فلسطين السليبة يحثُّ فيها المسلمين
والعرب علي تحريرها من براثن الصهيونية العالمية، منها :
أتصبحُ هاتيكَ الحقائقُ أوهاما
ويحكمُنا صهيونُ عرباً وإسلاما
إلهي إنْ نعجزْ فلستَ بعاجزٍ
فمالَكَ قد أسكنْتَ بيتَكَ هدّاما
أفي منزل الأرواحِ تُسكنُ أجساما
وفي مهبطِ الأملاكِ تجعلُ أصناما
وفي شرقِكَ الروحي تتركُ أمّةً
تكالبُ أطماعاً وتنهشُ إجراما
وما الشرقُ إلاّ معبدٌ لكَ خالدٌ
لدينِكَ كُهّاناً يضمُّ وخدّاما
أتصبحُ أرضُ القدسِ دارَ خلاعةٍ
وتُبدَّلُ من طُهرِ العبادةِ آثاما
إباء الشاعر وعزّة نفسه:
...............................
كان شاعرنا الكبير أحمد الصافي النجفي مشهوراً
بشدة إبائه وعزة نفسه ورفضه لكل ما يشم منه رائحة العطف أو المساعدة حيث يعتبر هذا
الأمر استهانة به وجرحاً لكرامته رغم سوء حالته الاقتصاديّة وحاجته الشديدة إلي المال،
حتي أعيا هذا الأمر أهله في مدينة النجف الأشرف الذين كانوا يسعون إلي مساعدته والتخفيف
عن كاهله وهو في سوريا أو لبنان ولكنه كان يرفض هذه المساعدة ويعيد لهم المال دون أن
يمس منه شيئاً، وفي إحدي المرات أنشأ عدد من الأدباء في بلاد الشام نادياً أدبياً ودعوا
الصافي إلي إلقاء قصيدة فيه وقد لبّي الصافي الدعوة وألقي قصيدة عامرة، وبعد فترة عرض
عليه النادي القبول بعضويته ضمنوا له شراء كافة مخطوطات دواوينه مع شراء بيت له يكون
سكناً دائماً له بدلاً من التنقل في الفنادق، فما كان إلاّ ورفض هذا العرض المغري بعد
أن شعر أنّ هنالك نوعاً من التعاطف والشفقة في هذا المجال .
رفض لقب أمير الشعراء :
................................
وفي إحدي المرات دُعيَ شاعرنا الصافي إلي
إلقاء قصيدة في إحدي المنتديات الأدبية في لبنان، وقام عريف الحفل بتعريفه مطلِقاً
عليه لقب أمير الشعراء، ولكن هذه التسمية أثارت الشجون في نفس فضمتها رباعياته الشهيرة
حيث يقول :
فكم من أحمق فيهم دعاني
أميراً مالئاً قلبي شجونا
دعاني بالأمير وكنت أولى
بأن أُدعي أمير المفلسينا
ويقول أيضا :
صافحتْني يدُ امرئ فرآني
ساخنَ الكفِ من لظي الوسواسِ
قال هذي حرارة الإيمان
قلتُ لا بل حرارةُ الإفلاسِ
من أجمل ما وصف به إفلاسه قوله
............................................
يراني الاقتصادُ وهدّ جسمي
بمنعي عن مآكلِ واجباتِ
أضرّ بيَ الطوي حتي كأني
لنقصِ الأكلِ آكلُ من حياتي
وفي الإفلاس والمرض يقول
مذ رآني الطبيبُ قال دعْ السعي
وهمّاً به حشاكَ يجيشُ
قلتُ إنّي أسعي ولا ألحقُ العيشَ
فان أسترحْ فكيفَ أعيشُ
جهل الأدباء من ابناء عصره بإبائه وعزّة نفسه:
.........................................................
ولعل الكثير من الأدباء آنذاك يجهلون هذه
الصفة في شاعرنا الصافي فكانوا عندما يكتبون عنه يفيضون في شرح أبعاد شاعريته يعرجون
إلي بؤس حالته وضنك عيشه ويحثون الحكومة العراقية علي تخصيص راتب له لانقاذه من حالة
البؤس وشظف العيش، فكان الصافي عندما يقرأ ما يكتب عنه يستشيط غضباً. وفي إحدي هذه
الحالات سارع الصافي إلى ارسال رسالة إلى الصحف العراقية يقول فيها: لقد حرتُ واللّه
ماذا أكتب وبماذا أجيب على كلام هؤلاء الأصدقاء والمحبين الذين لا يعرفون كيف يظهرون
عواطفهم تجاهي فيجرحونني وهم يحسبون أنهم يداوون جرحي. لقد أصبت من الزمان بجروح كثيرة
ولكن أعمقها في نفسي التوجع لي والتأسف والتلهف عليَّ
وفي هذا المضمار حدثت جفوة بينه وبين صديقه
الحميم عباس الخليلي وعلي أثرها جاءت قصيدة الصافي الشهيرة التي تحمل عنوان «الصديق
الثري» وفيها يقول :
فكم قضّيتُ دهراً مع صديقيي
ظلّلُنا لشقوتنا الهناءُ
توفّق للغني فأزورَّ عني
وبدَّل بالجفا منه الأخاءُ
لذاك نأيتُ عنه وفي فؤادي
بقايا الودِّ يطردُها الجفاءُ
وذكري الودِّ لازالت بقلبي
لدى الأيام يحفظها الوفاءُ
وأبكي كلّما أرنو إليها
ويسبقُها متي ترني البكاءُ
وأرثي بالقريضِ قديمَ حبّي
لو أن الميتَ يُرجعُهُ الرَّثاءُ
أدام اللّه أصحابي بفقر
مخافة أن يفرقنا الثراءُ
عاش الصافي على موارد دواوين شعره:
...................................................
هذا وكان الصافي النجفي يعيش علي موارد
دواوينه، وكان مترفعاً عن قبول المساعدات المالية التي تقدمها الجهات الرسمية إليه
وترفع عن المدح. وهكذا امتاز الصافي النجفي بعزة النفس وبالإباء المنقطع النظير متطبعاً
مع فقره وإفلاسه الدائم بانشراح لوجود ملكة القناعة في أعماق نفسه الأبية حتي ضُرب
به المثل.
الصافي شاعر الوجدانيات
المتأملة
.......................................
كان الصافي النجفي شديد الاستغراق والتأمل،
منغلقاً علي ذاته، سريع الثورة والانفعال، فهو يجمع في شخصيته بين النموذج العاطفي
والعصبي، لكنه أقرب إلي العاطفيين من حيث ترجيعه البعيد للحوادث في نفسه والتزامه قيماً
ومبادئ ثابتة لا يحيد عنها، فقد اختار نمط حياته بذاته ولم يخرج عن عاداته وتقاليده
قيد أنملة، وكان يؤمن أنه صاحب رسالة، وإنسان جدير بالإقتدار:
ولي في الشعرِ مدرسةٌ وشرعٌ
وآياتٌ تلوحُ ومعجزاتُ
أعلمكم بشعري الشعر لكن
تعلمُكمْ حياتي ما الحياةُ
الصافي نجم سطع في الثاثينيات :
........................................
برز الصافي النجفي في دنيا الشعر في الثلاثينات.
يوم كان جيل أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وخليل مطران يودع العالم، وفي فترة بدأت فيها
موجة المدرسة الابداعية تغزو حياتنا الأدبية، لكن تكوينه النفسي جعله يعلي مكانة العقل
في شعره فوق مكانة الإحساس. ويؤثر الواقع والفكر علي الخيال والإبهام، ويفضل التعبير
عن الحياة وما فيها علي التحليق في عوالم سحرية متخيلة، فظل أقرب إلي المتنبي من حيث
تمجيده العقل، وإلي المعري في نظرته المتشائمة إلي الحياة، ولم يأخذ من الرومانسيين
تمجيدهم الطبيعة وإحلالها محل الواقع، وإنما نظر إلي الكون والإنسان والمجتمع نظرة
متوازنة بعيدة عن الشطط.
وفي شعره نظرات إنسانية واجتماعية ووصف
للواقع وفلسفة عملية تلتقي وفلسفته المثالية، وإذا كان مظهره وسلوكه الخارجي قد أسبغا
علي حياته بعض الشذوذ والطرافة، فإن شعره يستمد طرافته من تفرد أفكاره وجدَّتها، وحسن
تناوله الموضوع الذي يطرقه، وصدق تأملاته وموضوعيتها وتركيزه الشديد علي شدّ القارئ
باختيار الموضوعات التي يعالجها. نراه بتأملاته يصنف البشر إلي ملاك وشيطان إذ يقول:
عجبتُ للناسِ يُدعي كلُّهم بشراً
وذا ملاكٌ وذا يبدو كشيطانِ
هذا يرقُّ لذي بؤسٍ فيطعمُهُ
وذاكَ يسلبُ خبزَ البائسِ العاني
احاولُ السب للإنسانِ من رجلٍ
مؤذٍ فيسكتُني إحسانُ إنسانِ
حتي حسبتُ وفعلُ الناسِ مختلفٌ
إحسانٌ ذلكَ تكفيراً عن الثاني
الصافي شاعر مجدّد الفكر
الشعري :
...........................................
الصافي شاعر مجدد، لكن تجديده يختلف عن
تجديد معاصريه، فهو يستعين في فنه بمادة لغوية واضحة وسهلة ودقيقة، وأسلوب لفظي تقليدي
لكنه مجدد في أفكاره، يجهد كثيراً في صوغ الفكرة لتأتي طريفة ممتعة ولا يطيل قصائده،
وإنما يقدمها علي صورة مقطوعات شعرية وجيزة، وسهلة ممتنعة تسحر القارئ، وليس نهجه الشعري
هذا غريباً عن أدبنا، فقد أ لّف الشعراء العرب هذا النهج وجعلوه من بعض شعرهم أقوالاً
سائرة محكمة النسج، وجيزة القول، حتي كأن كل مقطوعة منها هي زبدة قصيدة طويلة، تعد
من الشوارد التي تجمع في مختارات الأدب .
أما حسن التناول فلعل النجفي من أبرز شعراء
عصرنا قدرة علي اخراج شعره وتخليصه من الضعف وتنقيحه ليجيء معبّراً بكفاية عن الفكرة
التي يتناولها. يقول مفتخراً بنضاله ونضال أخيه:
سجنت وقلبي في العلا سجنوا أخي
وآمل في العلياء أن يسجنوا الأبنا
إذا لم نورّثْ تاجَ مجدٍ وسؤددِ
لأبنائنا طرّاً نورثهم سجنا
والبيتان من أفضل ما قيل أو يقال في الفخر،
علي بساطة التراكيب فهما ووضوح الصوغ، وعمق الفكرة، حسب آراء بعض النقاد .
الشعر فكرة :
..............
وهو قليل الإختفاء بالصور البيانية في وصفه
وحكمه، مقتصد فيها إلي أبعد الحدود، لأنه يؤمن أن الشعر فكرة قبل أن يكون صنعة، لكنه
يجري أحياناً وراء الفكرة، ويهمل عناصر الفن الأخري حتي يقع في عيوب النثرية، ولكن
من المفيد هنا أن نذكر ما قال عنه الأديب الكبير عباس محمود العقاد أنه أشهر شعراء
العربية وكتب عنه مخطوطاً يقول في أثنائه: «لا يكفي أن يدرسَ الصافي أديبٌ واحدٌ، بل
يجبُ أن يدرسَه مائةُ أديبٍ لسعةِ آفاقه الشعرية».
الحب والمرأة في حياة
الصافي:
..................................
لم يتزوج الصافي وعاش عازباً. وتعلق في
دمشق بحب فتاة تدعي «الست سامية» لكنه اكتفي بنظم قصيدة جميلة بحقها ولم يتقد بخطوبتها
كما توقعت :
خلقت حبيبتي لما خلقنا
ففيم أتيتني بعد الشبابِ
لقد كنّا نتيهُ بقفرِ حبٍّ
ظماء لا نعب سوي السرابِ
فليس اليوم يروي منك شوقي
ولو أني شربتُك كالشرابِ
عرفتكِ بالضمير ولم يَبنْ لي
خيالُك في ملامحه العذابِ
ولما ان رأيتكِ قلت شمسأ
أضاءت لي وكانت في غيابِ
كأنا زورقانِ قد التقينا
هوالِكَ في مصارعة العبابِ
تماسكنا حناناً واتحدنا
أقارب نلتقي بعد اغترابِ
تلاقينا وقد ولّي شبابي
فارجع لي اللقا عهد الشبابِ
شباب جل عن نزق وطيش
فما تخشي العواقب في الحسابِ
سيحسدنا الشباب علي هوانا
ويدرس عندنا فن التصابي
ماري الراهبة واالصافي:
..................................
ثم تعلق بماري الراهبة الجميلة، وكان يلتقيها
في بيت أهلها وهي تهم بدخول الدير لأنها منذورة :
قالت سأنأى عن الدنيا بصومعة
قلت اجعليها بحق اللّه لاثنينِ
فهل تضيق بدنيا الحب صومعة
تحوي مليكين بل تحوي ملاكينِ
ما نحن لما اتحدنا بالصفات سوى
روح وأن حسبت في العدِّ روحينِ
روح من الملأ الأعلي قد انقسمت
بين العراق وبين الشام نصفينِ
فهل توحدنا دار تكون لنا
كالقشر يجمع في أحشاه لبينِ
كلاهما لاجئ في قلب صاحبه
من عالم الناس أو من عالم الشينِ
وهل تضيق بدين اللّه صومعة
عن ضم حرينِ بل للّه عبدينِ
لا غرو إذ كلنا للّه منقطعأن
ضمنا اللّه منه تحت جنحينِ
اللّه ثالثنا في جوف معبدنا
ولا أقول إلهي ثالث اثنينِ
وله هذان البيتان في الحب والمرأة
تمنيتُ من خدّي حبيبيَ قبلةً
وما خدّه الوضّاء غيرُ شعاعِ
فجادَ بها لكن بوقتِ وداعهِ
فيا ليتَ كلّ العمرِ وقتَ وداعِ
وهكذا كان شاعرنا الصافي ينظم أبياتاً جميلة
في المرأة في فترات متقطعة من حياته، ولكنه في نهاية المطاف ترك الدنيا أعزب.
أسباب عدم زواج الصافي:
..................................
ويقول الأستاذ الخليلي في أسباب عدم زواجه: والشيء
الذي أنا متأكد منه أو قل شبه متأكد علي الأقل إنّه كان في كل حبه خائباً وإني لأستبعد
أن يكون حبّ المرأة له حباً متبادلاً من ناحية العاطفة الجنسية وإنّما هو حب إعجاب
من المرأة بشعره ورقته وإكباره واحترامه ذلك لأن الصافي لم يكن يعني بهندامه وملبوسه
وبالمسائل المستحدثة «الأتكيت المألوف» في المجتمع ثم هو لم يكن من الجمال الذي يجذب
امرأة حسناء لها نضارة الوجه وأناقة الملبس وحسنة السليقة والذوق ك «سامية» التي قال
فيها قصيدته البائية، وقد بالغ الصافي في ذكر دمامة وجهه وقبح صورته كما فعل قبله الشاعر
الحطيئة، حتي قال في ذلك تهكماً
لذاك تبدو لعيني
المرآة بعض الخصومِ
إني لأرثي لعين
ترنو لوجهي الذميمِ
لو كان وجهي بكفي
القيته في الجحيمِ
أبيع جسمي بدين
لو صح بيع الجسومِ
صحيح أنه قد بالغ في دمامة وجهه الذي يشبه
كثيراً وجه الزعيم الهندي الشهير المهاتما غاندي كأنهما توأمان ولكنه لم يبالغ في إهماله
لمظهره حين قال :
أنتم نظرتم ظاهري فضحكتمو
ونظرتُ باطنَكم فعدتُ ضحوكا
فلنبقَ نضحكُ لستُ قطُ بظاهري
أهتمُ إن يكُ بالياً مهتوكا
كلاّ ولستم تحفلونَ بباطنٍ
إن كانَ باطنُكم غدا مهتوكا
وفي مذكرات أكرم زعيتر أنّ الصافي نشر مقالاً
في جريدة الجزيرة الدمشقية، حول المرأة التي يريدها، فعدد الشروط، وقال :
«علي أن لا تطلب منّي مالاً، ولا جمالاً، ولا كمالاً،
لأني لا أطلب شيئاً منها، وأن لا تطلب منّي صحة لأنني مصاب بضعف في القلب، وتضخم في
الكبد ومرض في الكلية هو داء الرمل وضعف الأعصاب، والتهاب الحنجرة وغيرها...».
بعد إصابته برصاص القناص في
بيروت نقل الى بغداد
.................................................................
في يوم 9/شباط/1976 م، واستقبله عدد من
الشعراء بالشعر الجميل، كان من بينهم الدكتور الشيخ أحمد الوائلي الذي أتحفهُ بقصيدة
رائعة طويلة نقتطفُ منها هذه الأبيات
يا عودَ جرحِكَ لحن بالعبيرِ ندي
فخلِ جرحَكَ يشدو في ذري بلدي
فربَّ جرحٍ على أنغامهِ سكرتْ
دنيا وما زالَ صدّاحاً إلي الأبدِ
يابن الفراتِ لقد تاقَ الفراتُ إلى لحنٍ
عن الشّطِ والناعورِ مبتعدِ
غنّي للبنانَ فاخضرّتْ شواهقُهُ
ولفّع السفحَ في زاهٍ من البردِ
يا أيها العائدُ المجروحُ نزَّ لهُب
القلبِ جرحٌ وجرحٌ نزَّ بالجسدِ
العقاد : الصافي شاعر
العربيّة الأول:
................................................
يذكر خضر عباس الصالحي قي كتابه (شاعرية
الصافي)، وغيره ممن كتب عن شاعرنا الكبير، وتواترت الروايات، أن عباس محمود العقاد
الناقد والكاتب الكبير قد قال في مقابلة إذاعية من قاهرته: (الصافي أكبر شعراء العربية))
ويزيد أحمد الخزعلي في (لمحاته عن حياة
الصافي الكبير): " لا يكفي أن يدرسَ الصافي أديبٌ واحدٌ، بل يجبُ أن يدرسَه مائةُ
أديبٍ لسعةِ آفاقه الشعرية "
قول العقاد له مدلول كبير ككبره وعظمته،
لا يجوز أن نمرَّ عليه مرور الكرام، و لا أدري أقال العقاد ما قال إيماناً بشاعرية
الصافي الفذة، وصدق عكس خوالج معاناته الذاتية، وأحاسيسه الوجدانية دون تصنع أو تكلف،
أم نكاية بشوقي، الذي بقى على خلاف معه حتى وفاة الأمير 1932 م؟!!
وأكثر من هذا قد نفى عنه الشاعرية والشعر
تماماً، ناهيك عن أن يرضى به أميراً للشعراء، والشيء بالشيء يذكر، سُئل الصافي ذات
مرة في لبنان عن أمير الشعراء فقال:
سألتـْني الشعراءُ أيـن أميرُهمْ؟
فأجبـتُ: إيليـا بقـولٍ مطلقِ
قالوا: وأنت ! فقلتُ: ذاك أميرُكمْ
فأنا الأميرُ لأمـةٍ لم تُخْلَقِ
وفاة أحمد الصافي النجفي
................................
توفي النجفي في عام 1977م خلال الحرب الأهلية
اللبنانية، حيث أصابته رصاصة أطلقها قناص عليه في عام 1977م عندما كان يبحث عن رغيف
خيز يأكله بعد قضائه لثلاثة أيام بلا طعام، ثمّ تمّ نقله إلى مستشفى المقاصد، ثم إلى
بغداد بسبب صعوبة وضعه الصحي، حيث أصبح مقعداً، ثمّ توفّي عن عمر يناهز 80 عاماً
رحم الله شاعرنا أحمد الصافي النجفي وأسكنه فسيح جنانه
وإلى حلقة أخرى من
أدباء منسيون من بلادي
أستودعكم الله.
علاء الأديب
نونس/ نابل
3/10/2018
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق