مجلة صدى بغداد
العدد الثاني 2021
أدباء منسيون من بلادي
الجزء الثالث
الحلقة التاسعة عشرة
الشاعر محمد طالب البوسطجي
التقديم /
..........
كلما حاولت أن أضع نهاية للبحث عن أدباء منسيون من بلادي وجدتني أمام هالة ضوء حال بينها وبين العيون والذكرى دهر من العتمة . فأسعى إليها متناسيا رغبتي بمغادرة أبحاثي حتى تيقنت بأن البحث سيبقى ملازما لي طوال عمري.فلقد أيقنت منذ بداية ولوجي عالم الشعر والأدب بأن رسالة الأديب شاعرا أو كاتبا لايمكن أن تقف عند نص يكتبه أو ديوان شعر يطبعه وينشره بل يجب أن تتخذ لها آفاقا واسعة عرضا وطولا لاسيما في البحث عن المركون من الإبداع في مفاوز ظلماء حالت بينها وبين ذاكرة الناس أغبرة الدهر وظلماء الأنا التي سكنت نفوس الكثيرين من المثقفين الذين يستكثرون على من قبلهم البحث والتعريف هذا لأنهم يجتهدون دائما بدافع النرجسية والأنا أن يغتنموا كل دقيقة من حياتهم لترسيخ وجودهم وإثبات ذواتهم متناسين بأن البحث والتمحيص في الماضي والكشف عنه لايمكن إلا أن يكون رصيدا إضافيا لملكتهم الأدبية .
وأنا أتفق اليوم مع دار المرايا للطباعة والنشر في بغداد لطباعة ونشر الجزء الأول من موسوعة {أدباء منسيون من بلادي} حتى استوقفني شاعر عراقي لايكاد يعرفه أو يذكره إلا أناس معدودون بفعل ماذكرت لكم آنفا . حتى أجلت موضوع الطبع والنشر لأبحث عن هذا الشاعر الذي عانى ماعاناه أكثر الشعراء العراقيين في منافيهم ومازالوا.
وبالغعل لم أدخر جهدا في البحث عما يمكن أن يعيد ذاكرة الجيل لهذا الشاعر الرمز وأتمنى أن أكون قد وفقت في ذلك.
علاء الأديب.
الولادة /
..............
ولد محمد طالب محمد البوسطجي في مدينة البصرة سنة 1943 ودرس في مدارسها ثم في كلية الآداب بجامعة بغداد وتخرج في قسم اللغة العربية .
سيرته /
.............
× غادر العراق إلى الجزائر عام 1968 حيث اكتسب الجنسية الجزائرية وتزوج من جزائرية وابنته هي صبامحمد طالب أكاديمية وشاعرة .
× عمل مدرسًا بولاية جيجل. قرأ الكثير من التراث الشعري العربي مما أثرى حصيلته اللغوية وذوقه الفني. بدأ النشر - منذ فترة الدراسة - في الصحف والمجلات العراقية والعربية ثم وإلى النشر بعد ذلك، وكان له عمود ثابت في جريدة الشرق الجزائري ..
× كتب إلى جانب الشعر القصة القصيرة والرواية وقد نشر بعضاً منها في الصحف والمجلات الجزائرية .
× كان واحداً من ستة عشر شاعراً عراقياً ترجمت لهم نماذج شعرية إلى اللغة الفرنسية
. × كتب عنه وعن شعره عدد من النقاد
دواوينه /
.................
التسول في ارتفاع النهار، 1974
متاهات لا تنتهي، 1990
كتاب توثيقي عن محمد طالب
........................................
في عام 2005 أصدر مدير العام للمكتبة الوطنية الجزائرية في بيان يعلن فيه أن المكتبة بصدد إصدار كتابٍ توثيقي عن الأديب العراقي "الشهيد محمد طالب البوسطجي"، ويطلب من كلّ ذي علاقة بهذا الأديب أن يقدم للمكتبة ما لديه من معلومات أو وثائق أو شهادات.
كتب الشاعر جواد وادي عن محمد طالب محللا :
........................................................
لقد برزت اسماء عديدة بسطت حضورها بقوة في المشهد الابداعي لبلدان الشتات ويكفي ان نذكر اسماء تعتبر الان قبلة للمبدعين الشباب في تمثل تجربتهم الرائدة منهم : عدنان الصائغ ، منعم الفقير ، طارق حربي ، الراحل مصطفى عبد الله ، عبد الهادي سعدون ، وديع العبيدي والعشرات من المبدعين العراقيين ظلت نصوصهم تحايث الالم العراقي مندوفا بالم الغربة وحرقة المنافي . ومن الشعراء الذين اسسوا لقصيدة المنفى بامتياز ومنذ اواسط السبعينات حتى باتت قصيدته رديفا لادب الشتات بحرقتها ولوعتها وحجم الاسى الذي تعج به النصوص ، الشاعر الراحل محمد طالب البوسطجي بتجربته المتميزة كعلامة بارزة لادب المنفى او ما اصطلح على تسميته ادب الخارج ، لاننا بقرائتنا لتجربة الكتابة الابداعية في الداخل التي تميزت هي ايضا وكما اسلفنا بالمحاصرة والضيم والقهر وكم الافواه لكن بمشاكسة قد تكلف المبدع حياته لان الكتابة الابداعية غدت امرا كيانيا بالنسبة له ولا محيد عنها ، فكتب نصا جسورا يعج الما وحسرة ، امتدادا لهذه التجربة التي قد تتقاطع او تلتقي مع تجربة الخارج لنتبين ان التجربتين تتمرغان بذات الالم والمرارة وان ظهرت بعض الاختلافات التي قد تبدو شاسعة احيانا بين التجربتين بسبب الظروف الموضوعية والذاتية لكلتيهما، ولنأخذ تجربة الشاعر محمد طالب البوسطجي من خلال ديوانه ( آهات لا تنتهي ) لنتبين جليا ومن خلال غورنا في متن النص حجم المعاناة والاحساس باليتم فجاءت القصيدة بناءا متكاملا جذّرت وجودها ولحظة كتابتها مع مرجعياتها الاولى فكان الوطن حاضرا بقوة ليحول الشاعر الاشياء التي يعيشها كلها الى صور متحركة وأنسن حتى اللامتحرك ليضفي عليه لبوسا عراقيا متحركا باتجاه الانعتاق من اسار اللحظة القاهرة لتمنح الشاعر هدأة حتى وان كانت كاذبة ، ليستريح قليلا من لوعته ونشيجه ويشعر بدفء التراب الذي ظل يناجيه بمرارة فيقول الشاعر في تقديمه للديوان ( انا لا اكتب القصيدة مبتورة ، انما تتشكل قصائدي ضمن رؤية تتكامل وتشكل العمل ) وهنا يؤكد الشاعر بعدم اجتزاء الجملة الشعرية فيشوه الصورة الشعرية ليجعلها مفككة ، ركيكة ومتنافرة ، انما صياغتها وحدة واحدة معنى ومبنى :
في نصه الاول : ( عند ضفاف السراب ) يستهل الشاعر مناجاته للوطن فيقول :
هذا الوطن الموعود/ الممتد/ بين الاوهام/ مارا بالذكرى/ يعيش على قارعة الوهم. هو الوطن الوهم لينتفض بداخله ركام المواجد ليجدد صورة الوطن حتى وان كان رمزا لا يعدو كونه توظيفا سرياليا ليعود الوطن ضفافا من سراب ولا ينال الشاعر غير الوهم الموعود.
الوطن يوصد بوابات/ يضرب باسوار/ حول الاحزان ....... لغة سوداوية وصور قاتمة تشكل واقع الحال عن الوطن واستحالة الولوج من بوابات موصدة وصعبة المنال ليعود عراق الشاعر اسوارا لا يمكن اجتيازها فيطل بحسرة على ابجدياته الاولى طفلا هلوعا ينط هنا وهناك وهو لا يعرف من امره غير حنو ودفء الوطن امتدادا لدفء امه، يظل الشاعر مستلبا ، يبتلع صراخه الحسيروينتحب وحيدا غارقا بالشجن . تبين هذه الصورة المأساوية حجم المرارة التي كان الشاعر يقاسيها.
هذا الوطن الممتد / بين الحر الغاضب والصحراء الميتة/ يستذكر الشاعر هنا وبغصة ذلك الشعار الفضفاض : وطن يمتد من المحيط الهادر الى الخليج الثائر ، وهنا يشرك الشاعر الوطن العربي برمته في المأساة ولا يسثني العراق الذي يظل وحده نافذة الشاعر المشرعة على كل الاحتمالات ليؤسس للاتي من الايام والاحزان القادمة وتوظيف الشاعر هنا الصحراء الميتة بدل الخليج الثائر هي نبؤة الشاعر حيث تحول العراق الى وطن اطلال وصحراء قاحلة وجرداءلا حياة فيها انما الموت وحسب هو الذي يعشعش فيها ، فيكرر دائما جملته الجارحة : هذا الوطن الوهم ، حين تحول زهو العراق بنخيله الباسق الى لون داكن من رماد الفتك الرهيب.
هل ابصرت الشجرالمتشاجر مبتعدا / كقلائد داكنة ..../ تدعوك وحيدا / تفسد الابواب / ترتفع الاسوار / تبدو قدماك المتربتان كخفين /
يستحضر الشاعر طفولته فيعدو صوب الوطن بقدم متربة ليتوسد ترابه ويتنسم هواءه ، لكن الوطن ينؤ بحمله دون ان يحضى منه بلمسة دفء وهو شديد الاحساس باليتم ، فيشعر بالانكسار حيث يعود الوطن رديفا للظلال والعقبان : بحثا عن وطن وظلال/ العقبان الحائمة ، التي تحوم علي جيف الموتى ليعود الوطن مقبرة كبيرة .
من يعيد لقلب الشاعر سريرته ويبعد الخوف عنه وهو قابع في محرابه القصي لكن الوطن يبقى دائما مصدر قلق الشاعر .
يسترسل الشاعر في ملامح الوطن القاتمة : الساعة لم يك في هذه الارض سوى/ صمت وسكون/..... كل شيء تحول الى صمت قاتل ، لا حياة ولا حركة ولا بهاء ، لم يتبق من الوطن غير الصمت وهو الذي يتوق للتحول الدائم لكن روحه الكسيرة في هذا الوطن الكسيح ، صرخات للشاعر تموت عند ولادتها.
وبلغ تيه القوافل/ ...... لتطل على الساحل مغمورا بالغرباء والامتعة/ تسبقك غيوم سماء حبلى/ .
القوافل ضاعت في قلب الصحراء يا صديقي الشاعر ومحطتك ستعود واحات جرداء وانت محاط بالخوف وتنهش لحمك الكلاب ، فانت دائما مغمور بالغرباء والامكنة، ها هو البحر يدعوك ايها الشاعر المنكوب لتفرغ شوقك في هدوئه الحذر ولا غير السفن مآلك للابحار وانت على ظهرها محملا كالغرباء المنكوبين .
ينفتح على الكون ينبض بالفرح الصاخب/ والهول الصاخب فانشر قلعك / ولتدن الجزر المأهولة بالاشجار وبالاغراب/.
الشاعر دائم الابحار بين الفرح الصاخب والهول الصاخب وهل يتواشج الشجر مع الغرباء وانت تطل يتيما وسط ركامات الاحزان ؟
أنشد اشعارك فوق ضفاف/ هي الامل المدفون / يدعوك البحر فكن وطنا/ كن خيمة عشق غيمة احلام/.......
حتى الامل السراب بات مدفونا في الوطن، فالشاعر ممكن ان يكون وطنا ولكن الوطن لا يدس الشعر هباء في تفاصيل الشاعر ، تحوم روحه لتندس في طائر وديعا كان ام جارحا ، ولكن النباح يظل يلاحقه ، وهنا يقارن الشاعر بين النباح والاصوات النشاز التي تعكر لحظة التوحد مع همومه الشعرية ، ليبقى غارقا في الحلم وهو يلعق قدره المتربص بلحظات ذلك التوحد المقدس .
ولعل هناك كروما.. نخلا / اجمات قصب / فالهاجرة لهب / لهب مظلم / كسعير../ ألق الخطوة بعد الخطوة/ اللج امامك.. / هذا الغمرالغامض/ ككتاب / هل هذا الغمر سراب/
يعدد الشاعر في مواجد حزينةاسئلة حارقة قد لا يجد غير الهواء متنفسا لضيق الروح وهو شاخص صوب ترنيمة الوطن بمتناقضات اليمة : كروم ، نخل ، اجمات ، هاجرة ، لهب ، سعير ، ألق ، كتاب ، سراب . لينتهي للا شيء غير السراب بعد هذه الرحلة الاسرائية ولا يمسك من امله الكاذب غير السراب.
في نصه الثاني ( نشيد ) تتواصل هموم الشاعر في ذات الدائرة الحلزونية المتعبة :
ترى تأتين كالاسرار / احملها فتسحقني / تمر على ضلوعي / احتمي بالبحر/ يفتح جناحيه لكل احلام الفرار......... تورثين مكامني ألم الصراخ/ تباغتين الريح بالاشجار/ والاحزان بالارواح/ والغربات بالذكرى / وآمالي / بكل شرائع النكد/...........
هل يتوسم الشاعر دروبه ليشذ عن لحظته غارقا في نشيده المتعالي تارة والخافت تارة اخرى ؟ ليجد منفذه الوحيد وهو يطأ ارض الوطن ، البحر او يطير بجناحيه وهو هنا يبادل الاشياء بغيرها ويعيد ترتيبها حسبما يرى ليقتعد على امواج البحر، طائرا حين يتعب ويحلق بعيدا ، بوصلته تراب الوطن وضوع عطره ، والحبيبة تبقى سفينته للخلاص من اتون المحارق الى نشوة الانعتاق.
غدا ارتد للمدن السجينة في الضجيج/ وأكتري دارا/ ازينها باحلامي / وافرشها باسراري/ واشرع بابها للريح والاغراب/ وازرع في حديقتها الازاهير/.........
مهما تكاثرت على الشاعر المواجع ، يظل متشبثا بالامل ، لا يلتفت احيانا لمآسيه قبل ان يطل على لحظته ليشرع في الخطر القادم ، فهو شاخص النظر للآتي دائما، وغده امله وليس سوى ان يقبض بدفة الريح ليذهب بعيدا ويكفيه ان يبقى الوطن حيزه الابهى ليكتري دارا تذكره دائما بدفء الوطن يزينها باحلامه ويفرشها باسراره ، انها ملاذه الاخير من عسف اليتم وقهر السنين ، ليعبقها بضوع ازاهير محبوبته ، لكنه وهو في نشوة الامل والاحساس بالفرح حتى وان كان كاذبا ، لا يتحرر تماما من سطوة القدر اللعين وملاحقته لكل خطاه حتى وان كانت صمتا ودون ضجيج ، وهو طيب حد البكاء حين يدجن في حديقته حتى الغرباء ويفتح بابها للريح منفذ الخلاص من ربقة المحاصرة القاتلة لتصبح داره جنة مطوية بالصمت ، يبقى الوطن في ضمير الشاعر اشراقة دائمة الوهيج و التلألأ حتى وان
كانت في خاطره وضميره لا تخبو ابدا ، ليظل صامدا كالشجر يجاهد الريح والعواصف وانواء المحو ولا يتزحزح حتى يلتقي الحبيبة ليندس في جسدها وروحها لتهدأ روحه ، تتكرر في نص الشاعر مفردات : البحر- الموج- الريح- الطير- الاعاصير- الاجنحة .....
واظن انه يجد سلواه في المقاومة تحديا لرعونة من افقده وشيجته بترابه واهله.
في نصه ( تهويمة ) يفتح الشاعر ذراعيه مشرعة للامل : لو اسعدتك الريح/ لو مرت الامواج كسلى/ لو تثني الشراع/ لو حنت الاسرار..نز اليراع/ اغنية كسلى/ لو اسدل العشاق اجفانهم/ ......... لو عانقت وهمي/..... يكرر الشاعر جملته الشعرية: لو.... ثمان مرات احساسا كبيرا بالانكسار لينتهي : حيث تراني / بين وهم سرى/ ورحلة لا تنتهي بالرجوع.
الرجوع ذلك الحلم المؤجل ليلملم الشاعر جراحاته.
اما في نصه (الرحلة) يقول :
بدأت اعشاب الوهم / والطرق الموغلة / في الاهوال الموقوتة بالخطوات....../ بالباعة والاردية / القمح والاسرار ؟ / اتكون الخاتمة طوافا آخر .
انها دورة من الالم الممض الذي لا يدع الشاعر ان يتنفس الصعداء ويعيد ترتيب نقسه لينطلق ثانية وثالثة دون ان يجد ومضة امل في نهاية المشوار ، فالطريق محفوفة بالمخاطر والمغامرة غير محسوبة النتائج وعليه ركوب الاهوال ولكن بخطوات موقوتة لان الحذر مطلوب ويستعين بذكرياته المختزنة ليرطب الذات المنهارة ليحيي بداخله تلك الايام الخوالي من صور حياتية يفتقدها الان ، تلك لعمري محنة حقيقية يقاسيها ادباء المنافي وهم يجهلون أي سبب لهذا الخراب الذي يقطّع اوصالهم ولا من سبيل للانعتاق او لمسة حنان هم بامس الحاجة ليشعروا بدفء الحياة وعدالة الوجود الانساني لكن هذا الامر يبدو عصي التحقيق:
أتكون خرائب ترعى الاغبرة / والاعشاب اليابسة ؟ / بينما الاعمدة الهرمة/ والبوابات المفتوحة للصيف وللاوهام/ الراحلة/ .
يعاود الشاعر الكرة دون ان يشعر بالملل فهي قضية مقدسة ورحلة سيزيفية باصرار شديد الوثوق من النهاية ولكن اية نهاية واي مصير ينتظره ليظل الخراب سمة يستوطن الذاكرة بجفاف دائم وحتى الاعمدة مؤول الشاعر لتقيه عسف الوقت باتت خربة وآيلة الى الانهيار، لتبقى الابواب دائما مشرعة للصيف والاوهام الراحلة ولكنه يظل متشبثا بكل شيء.
الوهم ثم الوهم ولا سواه ملاذ الشاعر في الهروب من قسوة اللحظة الى فضاء ارحب ومملكة من الحلم يزوقها كما يشاء، ليظل تحت وطأة الاحساس بالجميل في داخله رغم قبح ما يسوره من فضاعة وبشاعة والم دائم.
بدأت اعشاب الوهم/ وانداح سراب/ كنت على آخر لجته / طافية / والقافلة الهلكى / تتجاذب اطراف اليأس.
الكلام ما عاد متنفسا للشاعر والصمت ديدنه في التعايش مع ما يحيط به . جدب الارض يدك كيانه بابارها النضبة بعد ان كانت ارض العطاء والخصب ، انها ارض السواد، الوشائج تتجذر في اعماق الشاعر اكثر فاكثر والوطن يتحول الى امل زئبقي الملمس كلما امسك بتلابيبه ، انزلق من بين يديه ولم يجد غير الخواء . انها محنة وهم قاتل وهو في منفاه يستغيث بما تيسر له ولكن دون امل لتصفعه ريح الاشجار الصفراء .
الكرم على الطير/ الطير على الكرم/ النحل يثرثر، اجنحة تهمي/ النمل المنتظم خيوطا سوداء / القطط المتشمسة / ينابيع خمور/ عسل اشقر/ اعراس قائمة قاعدة / اشرطة حرير/ اطفال مبهورون/ .... نيران عذبة .
تلك هي السوداوية القاتمة بعينها ، بمتناقضاتها، وكلما فتح مسربا لهذا الحصار ، داهمته المخاوف ثانية، لتعود مخلوقات الارض مصدر شغب وخوف وتوجس/ النمل يثرثر .. ليعود خيوطا سوداء ,القطط ينابيع خمور ، ونيران الوطن تلك العذبة يستحضرها الشاعر في وجدانه ليعيد لمة الاهل حولها فهي دائما عذبة قبل ان تلسعه بوهيجها اللافح ، وهو يحسد حتي الورق الذي كم تمنى ان يصاحبه همسه ليكركر معه مثلما الاطفال في الق بريء .
الغرباء يقيمون هنا / الشمع المنتظر على محمله/ وكوى الشرفات المشرعة/ الاشجار/ المتناثرة / هنا وهناك....../ الاتربة/ الاعشاب بدأت اعشاب الوهم .
ترى من يقيم في وطن الخراب غير الغرباء والمنحوسين ؟ فلقد وصل الشاعر الى نهاية القول لان الوطن حين يعود خرابا تحل العاصفة لتذهب بكل شيء بما تبقى لهذا الوطن المنكوب ، خراب يتوزع هنا وهناك لتغطي الاتربة جمال الامكنة ويبدأ الوهم دورته ثانية ، دائما يعود الشاعر لهذه المفردة بعد ان يحلق بعيدا عن تفاصيل الخراب ليوهم نفسه ان ما حل بوطنه من محو كان مجرد وهم ولكن ما ان يصحو من غفوته حتى يجد نفسه مطمورا تحت انقاض الخراب الذي يتوزع في ارجاء الوطن دون تفريق بين الامكنة فيصحوا على الحقيقة المرة .
ان الشاعر برحلته الاسرائية هذه يعالج لحظات الاسرالهارب بالامساك بصرير الريح لكي لا يعود وهما ، فيعبأ رئتيه برائحة الوطن وعبق ترابه. تلك لعمري اشد لحظات التعلق بالوهم ، ليغدو في مخيلته حقيقة وحسب وما سواها محض هراء. الوطن القابع تحت جلد الشاعر يتحسسه لحظة بلحظة بهاجس الخوف عليه تارة ورغبة التوحد معه تارة اخرى، حتى وان ابتعدت ظلال الجفاف عنه ولا بأس في ان يطل على رمانة الحلم في لحظة رائقة ولكن بتوجس شديد الحذر من المفاجيء.
اسراب قطا تتشاجر في أبد ميت/ واحات داكنة وظلال/ أخفاف نياق متروكة/ دمع اخضر/ أسرار ذابلة/ ..... بوابات بحار/ أغراب مغمورون/ ..... سفن عابرة......./ يبتسم سليل الاحلام الرثة .
يظل الشعر يعدد منافذ الخلاص بقلق شديد وبعشق طاغ عله يتلمس جادة الصواب لتوق اللقاء فيوظف في نصوصه تعابير تتقاطع حينا وتتنافر احيانا اخرى ليجمعها في بوتقة واحدة بكل متناقضاتها : نياق متروكة- دمع اخضر- اسرار ذابلة- بوابات بحار
أنداء سفن عابرة- عنقاء محنطة- رخ مشنوق...../ فكيف يجمع الشاعر هذه الاشياء المتنافرة ليضعها امامه دون ان يميز بين النافر وبين القريب الى القلب وبه توق ليفتح ذراعيه صوب الوطن البعيد بفرح طفولي والاحساس بالشوق يمزقه :
انت الضيف الباحث عن خيمة/
انت قرى للصحراء الجائعة/
نيرانك اهوال النفس/
ولكن بعتاب دامع والم ممض وحسرة قاتلة :
جلاسك موتى العشق/
سعدك متعب/
سعدك متعب/
قدماك رصاص صديء/
وبعد هذا العتاب اللاهب والمواجهة الحنونة واللوم الكسير والاحساس بعمق المودة يرطب الشاعر لغته لئلا يظل الوطن غاضبا عليه وتظل الوشيجة دون انفصام يخاطبه بحنو شجي:
أرح عينيك / تهدج بالنجوى/ أوقد بارقة الامل.
في نصه الاخير ( طيور) لا يكاد يرحل الشاعر بعيدا عن ذات الاسى والاحساس بحاجته للوطن الذي كم جال في الخيال ليرتب له مكانا يحتميه من قسوة الغربة لكنه يظل يدور بمواجده الصارخة ولا من مجيب فيتدرج بدلع طفولي واحابيل خادعة كانه صبي يبحث عمن يمد له يد العون لينتشله من ركود اللحظة الى فضاء ارحب وبمرح بريء كاي طفل في الكون يبحث عن ملاذ وحنو وصدر دافيء .
عند غروب الاحلام الكدرة / تجلس في دارك/ منفردا بالذكرى/ سعف نخيل يتهامس/ كشيوخ تنصت لنواح يمام .
هنا يستحضر الشاعر كثيرا من ملامح مدينته البصرة ، بنخيلها ومائها وشيوخها وحمامها وابراجها ومقاهيها وشوارعها وساحاتها وحنوها وفي هذا الكم الهائل من الذكريات انما يريد فقط ان يتنامى الامل بداخله ويستوطن الانتشاء في صدره لكن الخوف يلاحقه وينتفض بداخله دائما رعب مجهول ليزيح ذلك الاحساس الجميل مؤانسه الوحيد في هذا الطقس الموحش:
انت غريب / طاردك عواء ذئاب جائعة/ فنشرت جناحيك/ وطاردت الافاق/... منكفئا تقضي اوصالك باردة ..... سفن جانحة/ انهكها اعصار/ مرت في احلام الغرباء تشيعها/ احشاد نوارس.....
يتوكأ الشاعر على احلامه ، زاده وجع الغربة وهمه الدائم صورة الوطن الضائع بين زوايا الروح وركامات الخراب :
من يطرق نافذة الاحلام/ الكدرة/ اصوات الديكة/ تعلن/ عن تيه نهار آخر.
هكذا وببساطة ينهي الشعر دورته الدامية دون ان ينال عشبة الحياة – الامل – متمثلا بعذابات مواطنه جلجامش الذي قاتل حتى الريح دون ان ينال ما افنى وقتا من عمره بحثا عن امل الحياة الخالدة ، يلتقي العراقيون جميعا في ذات الهم ونفس المعاناة ، مكابداتهم لا حدود لها منذ ان بزغت شمس الحضارة على هذا الوطن المعطاء حتى يومنا هذا ولعلها تمتد الى ما شاء الله.
ان رحيل الشاعر المفاجيء الذي مثل لكل مريديه فاجعة حقيقية حين امتدت له يد الغدر والاجرام واغتاله قتلة محترفون وظلاميون جهلة انما هو فعل جبان وخسيس ارادوا من خلاله اسكات هذا الصوت الشعري المتميز والقامة الابداعية التي تركت ارثا شعريا كان بالامكان ان ترفد الشعر العربي الحديث بالغني والجديد .
كان الشاعر الراحل محمد طالب البوسطجي صلبا ولم يخضع لتهديدات القتلة ، فواصل تحديه لانجاز مشروعه الشعري الذي نذر حياته من اجله حتى اتحفنا نحن اللاهفين للولوج الى مملكته الشعرية بغناها وتفردها وكم آلمنا نحن الصحب المحبين لهذه الموهبة الفذة ان يخسر المشهد الشعري العربي عموما والعراقي على وجه التحديد هكذا صوت معطاء تميز عن الراهن في الكتابة الشعرية وخلق له كيانا مستقلا ومتميزا يكاد لا يقترب عن التجارب الاخرى من حيث التأثر والتقليد والتناصات الشعرية التي كثيرا ما تصدمنا حين قرائتنا لها.
ان محمد طالب البوسطجي صوت شعري صادح ، كم شعرت بالضيم وانا اقرأ نصوصه ، فتذكرت مآسي بدر شاكر السياب ومعاناته مع المرض وعشقه الصوفي لوطنه العراق ، سيما اذا ما قارنا بين الاثنبن فنجد الكثير من الصور الشعرية توحدهما معا من وصف النخيل ، الى وصف الطبيعة وكثيرا ما تكون تلك الصور الشعرية لصيقة بمدينتهما البصرة ، ثغر العراق التي انجبت الشعراء والمفكرين والعباقرة في كل مناحي الابداع الانساني المتعدد المشارب والاتجاهات.
ينبغي ان نعيد ذكرى الشهيد محمد طالب البوسطجي دائما ، ليعيش في قلوبنا ويستوطن ضمائرنا ، شاعرا وانسانا ومناضلا وشهيدا وبهذا الوفاء الذي لا يجب ان يفتر ابدا نكون قد ساهمنا باحياء ذكراه العطرة ، ووجهنا لطمة للقتلة الاوغاد حين ارادوا ان يسكتوا هذا الصوت الخير ولكنهم خسئوا في فعلتهم ولم يفلحوا في ذلك .
ولنقف جميعا ادباء ومثقفين وقراء اوفياء في العراق او الجزائر او على امتداد الوطن العربي الجريح ، وقفة اجلال وتكريم لروحه الطاهرة ودمه الزكي وليخسيء كل من شارك في الفعلة الدنيئة والخلود لك يا ابا رافد الشاعر الثر والانسان .
من شعره
.............
في هذا المنفى الحافل بجذوع الأشجار المتحجرة
منذ الحقب الأولى
الحافلُ بالموتى والآبار الناضبة
وأوهام صداع مطبق
وحدائق مزروعة
بالأحجار وبالنسيان وبالموت
أتعرّى
أغطسُ في الماءِ
الراحل عبر البلدان
في هجرتهِ العظمى
لا من يذكرني
غير الجسد المثقل بالأحلام .
وفاته /
............
اغتيل في أكتوبر عام 1994 في الطاهير بشرق الجزائر أو يقال في مدينة جيجل وهو في الطريق إلى زيارة صديقه عبد الإله الصائغ. وفي عام 2005 أصدر مدير العام للمكتبة الوطنية الجزائرية في بيان يعلن فيه أن المكتبة بصدد إصدار كتابٍ توثيقي عن الأديب العراقي "الشهيد محمد طالب البوسطجي"، ويطلب من كلّ ذي علاقة بهذا الأديب أن يقدم للمكتبة ما لديه من معلومات أو وثائق أو شهادات
شهيد عصر الردة /
.............................
إن واقعة الشهيد الشاعر العراقي المنفي والمجهول محمد طالب البوسطجي أستاذ اللغة العربية في إحدى مدارس مدينة "الطاهير" الجزائرية، الذي سقط قتيلاً صامتاً برصاص الجماعات الإرهابية هناك وهو يهم بدخول مدرسته في أحد أيام العام 1994 . كان بداية عصر الظلمات والارتدادات الذي نشهده الآن، عصر فنون من الهمجية لم يحلم بها حتى همج العصور السحيقة .
رحم الله الشاعر محمد طالب البوسطجي وأحسن مأواه
وإلى حلقة قادمة من
{أدباء منسيون من بلادي}
علاء الأديب
تونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق