بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 25 نوفمبر 2016

العدد 11 لسنة 2016 البعد الفلسفي لقصيدة حفار القبور للشاعر السياب بقلم الأديب العراقي عماد الدعمي


العدد 11 لسنة 2016

البعد الفلسفي لقصيدة حفار القبور للشاعر السياب
 
بقلم  الأديب العراقي عماد الدعمي
 




هل كان عدلا أن أحن إلى السراب و لا أنال
إلا الحنين و ألف أنثى تحت أقدامي تنام
أ فكلما اتقدت رغاب في الجوانح شح مال
ما زلت أسمع بالحروب فأين أين هي الحروب
أين السنابك و القذائف و الضحايا في الدروب
لأظل أدفنها فلا تسع الصحارى
فأدس في قمم التلال عظامهن و في الكهوف
فكأن قعقعة المنازل في اللظى نقر الدفوف
أو وقع أقدام العذارى
يرقص حولي لا عبات بالصنوج و بالسيوف
نبئت عن حرب تدور لعل عزرائيل فيها
في الليل يكدح و النهار فلن يمر على قرانا
أو بالمدينة و هي توشك أن تضيق بساكنيها
نبئت أن القاصفات هناك ما تركت مكانا
إلا وحل به الدمار فأي سوق للقبور
حتى كأن الأرض من ذهب يضاحك حافريها
حتى كأن معاصر الدم دافقات بالخمور
أواه لو أني هناك أسد باللحم النثير
جوع القبور و جوع نفسي في بلاد ليس فيها
إلا أرامل أو عذارى غاب عنهن الرجال
وافتضهن الفاتحون إلى الذماء كما يقال
مازلت أسمع بالحروب فما لأعين موقديها
لا تستقر على قرانا ليت عيني تلتقيها
و تخضهن إلى القرار و كالنيازك و الرعود
تهوي بهن على النخيل على الرجال على المهود
حتى تحدق أعين الموتى كآلاف اللآلي
من كل شبر في المدينة ثم تنظم كالعقود
في هذه الأرض الخراب فيا لأعينها و يا لي
رباه إني أقشعر أكاد أسمع في الخيال
أغنية تصف العيون
تنثال من مقهى فأنصت في الزحام و ينصتون
و كأن ما بيني و بين الآخرين من الهواء
ثدي سخي بالحليب و بالمحبة و الأخاء
لو وقفنا على قصيدة حفار القبور بتمعن لوجدنا أن للمرأة والأنثى الدور الفاعل فيها لا بل من المحركات الأساسية في بنية القصيدة وهذا يولد عندنا عدة تساؤلات أهما أن السياب في هذه القصيدة بالكاد يعلن ثورته المتفجرة على النساء ؟ وربما يعود ذلك للتركيب الشكلي لهيئة السياب ،، إذا كان له الأثر الواضح في بنية قصائده ، وربما للتجارب العاطفية التي خاضها وفشلت، ومن هذا يتولد لدينا وعن قناعة أن القصيدة ذاتية بحتة وهذا ما يراه بعض من النقاد ...
كما أن دلالات الغضبية عند الشاعر عززت ذلك لدينا وكما ذكرنا سالفا أن الفقر كان سببا رئيسا ومؤثرا فاعلا على بنية القصيدة ،
هل كان عدلا أن أحن إلى السراب و لا أنال
إلا الحنين و ألف أنثى تحت أقدامي تنام
أ فكلما اتقدت رغاب في الجوانح شح مال
لاحظ التساؤل الغريب هل كان عدلا ؟ لم ينل سوى الحنين وألف أنثى تحت أقدامه تنام في قاع القبر ؟
ثم اتقاد الرغبات في الجوانح ولكن بلا مال .....
هل كان عدلا ؟ لم تتقد الرغبات ومن دون مال ؟ لم تموت النساء وهو لم ينل منها بسبب الفقر ؟ أبعاد فلسفية عبر عنها بذاتية ونزعة غضب...
ما زلت أسمع بالحروب فأين أين هي الحروب
أين السنابك و القذائف و الضحايا في الدروب
لأظل أدفنها فلا تسع الصحارى
فأدس في قمم التلال عظامهن و في الكهوف
فكأن قعقعة المنازل في اللظى نقر الدفوف
أو وقع أقدام العذارى
يرقص حولي لا عبات بالصنوج و بالسيوف
الجرس الموسيقي لبحر الكامل الذي وظفه السياب كان قويا منسجما مع إيقاع القصيدة دالا على الغضب ... هذا الحفار كان قد تشبَّع بنفسه الحقد فظل يطلب الحروب ليحل الدمار ويكثر الموتى من حوله حتى يكسب المال الوفير ....
الأصوات المدوية المرعبة صاحبت الذات الشاعرة طوال القصيدة وليتنا كنا قد عرفنا كيف كتبت القصيدة وكم من الوقت استغرقت حتى نستشف من خلالها ترابط الوحدة الموضوعية المحبكة، ولكننا ومن خلال رؤيتنا نرى أن القصيدة كتبت بتسلسل زمني متواصل ومترابط وكأنها ثورة عارمة حتى انتهت ، والدليل على ذلك محافظتها على نسق الغضب وزج الصور المرعبة فيها منذ بدايتها لنهايتها حتى أننا نجد أن الذات الشاعرة انغرست تماما فيها لتعبر عن مكوناتها بدقة متناهية .
نبئت عن حرب تدور لعل عزرائيل فيها
في الليل يكدح و النهار فلن يمر على قرانا
أو بالمدينة و هي توشك أن تضيق بساكنيها
نبئت أن القاصفات هناك ما تركت مكانا
إلا وحل به الدمار فأي سوق للقبور
حتى كأن الأرض من ذهب يضاحك حافريها
حتى كأن معاصر الدم دافقات بالخمور
أواه لو أني هناك أسد باللحم النثير
جوع القبور و جوع نفسي في بلاد ليس فيها
إلا أرامل أو عذارى غاب عنهن الرجال
وافتضهن الفاتحون إلى الذماء كما يقال
لاحظ هنا كيف صور لنا الملك عزرائيل ع وهو منشغلا في أحد الحروب حتى بات هناك سوق للقبور ،ولم يلتفت لمدينة حفار القبور ...
ثم أمنياته أن يكون هناك ليسد جوع القبور وجوع نفسه والفقر الذي كانت سببا كبيرا في انفعالاته ......
ثم تصوير ونقل صور عن بلاده ، الأرامل والعذراى وهن بلا رجال ... وكأنهن أمسين فريسة لرجال باعوا الذمم ....
تجسيد حالة واقعية جسدها بفصاحة مما يدل على روح طيبة محبة للخير والوطن والشرف وهو انعكاس راقي صوره ليزج به وكأنه يوجه رسالة للآخرين ...
قوة المزاج الشعري في هذه القصيدة ولدت عند المتلقي المتمعن أن القصيدة قد أجبرتنا على الذهاب إليها لنستكشف الحقائق فيها التي تجعلنا نتلذذ بنكهة الشعر ليصل إلى مزاجنا فيكون له تغيرا وتطويرا على جماليات الذهن التي تحتاج محركا قويا وفاعلا .
مازلت أسمع بالحروب فما لأعين موقديها
لا تستقر على قرانا ليت عيني تلتقيها
و تخضهن إلى القرار و كالنيازك و الرعود
تهوي بهن على النخيل على الرجال على المهود
حتى تحدق أعين الموتى كآلاف اللآلي
من كل شبر في المدينة ثم تنظم كالعقود
في هذه الأرض الخراب فيا لأعينها و يا لي
رباه إني أقشعر أكاد أسمع في الخيال
أغنية تصف العيون
تنثال من مقهى فأنصت في الزحام و ينصتون
و كأن ما بيني و بين الآخرين من الهواء
ثدي سخي بالحليب و بالمحبة و الأخاء
الآن لاحظ الأسلوبية المتفردة في الكتابة الشعرية
مازلت أسمع بالحروب فما لأعين موقديها
لا تستقر على قرانا ليت عيني تلتقيها
أسلوب رصين مصحوب بصورة تناسقت حروفها لتعطي مدلولات عميقة الأثر ...
استلهمت الذات الشاعرة هذه الصور من الأمكنة حتى شكلت صورا شديدة التنوع ويعود السبب في ذلك إلى الاندفاعية الشعرية التي جعلت مساحات القصيدة واسعة وممتدة والسبب يعود في ذلك كثرة ما أراد أن يفصح عنه الشاعر مما يثور في داخله كالبركان لذا لم يكن الاختزال موجودا فيها لطول الملحمة ... ولكننا نجد الاختزال البلاغي موجودا أحيانا وبقوة بطريقة الإيحاء والرمزية والله أعلم .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق