بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 12 ديسمبر 2018

مجلة صدى بغداد .. أدباء منسيون من بلادي/ الجزء الثالث .. الحلقة الثانيّة {الأديب العراقي اليهودي أنور شاؤول} ... تقديم / علاء الأديب



 مجلة صدى بغداد

أدباء منسيون من بلادي/ الجزء الثالث

الحلقة الثانيّة {الأديب العراقي اليهودي أنور شاؤول}

تقديم / علاء الأديب





التقديم :
...........
لم يكن البعثيون أرفق من القوميين باليهود العراقيين الذين آثروا البقاء في وطنهم رغم هجرة الكثيرين منهم إثر المضايقات التي تعرضوا لها إذ بان إحتلال فلسطين . فما أن استلم البعثيون السلطة في العراق حتى أصدرت القيادة انذاك ممثلة بنائب رئيس الجمهورية صدام حسين المشرف العام على أجهزة أمن الدولة إلى وزير الداخلية الفريق صالح مهدي عمّاش الأوامر لتصفية ماتبقى من اليهود في العراق  دون الأخذ بنظر الإعتبار أية جوانب انسانية أو وطنية  أو غير ذلك من الجوانب التي كان يمكن أن تشفع لهم لإبقائهم في وطنهم.
وكان الأديب الوطني العراقي أنور شاؤول  من بين هؤلاء اليهود . فقد ألقي عليه القبض وتم زجّه في  .1969السجن شهر نيسان  عام
وكان الرجل بانتظار الحكم بالإعدام كغيره من المعتقلين اليهود .إلاّ إنّه فكّر في محاولة استعطاف القيادة آنذاك للخلاص من هذا الحكم الجائر الذي سيطبق عليه في أية ساعة من ساعات حبسه.
فأرسل برسالة الى وزير الداخلية صالح مهدي عمّاش تتضمن قصيدة له هزّت مشاعر عمّاش الذي كان شاعرا .وكانت الرسالة معنونة الى الرئيس البكر .
وعلى الرغم من أنّ تلك الرسالة كان يجب أن تصل ليد نائب الرئيس المشرف على أجهزة الأمن وفقا لترتيب سلسلة المراجع إلاّ إنّ عمّاش قد سلّم الرسالة مباشرة الى البكر لأنه كان يعلم علم اليقين بأن النائب كان من أشدّ العازمين على إخلاء العراق من اليهود بأيّة صورة كانت وإنّ عنونة الرسالة للرئيس مباشرة ستثير حفيطة  النائب وعندها يمكن أن يصدر أمرا بإعدام أنور شاؤول.
وما أن قرأ الرئيس البكر الرسالة والقصيدة حتى أمر بإخلاء سبيل الشاعر والسماح له بمغادرة العراق.
عندها غادر أنور شاؤول العراق الى بريطانيا ومنها سافر الى اسرئيل ليستقر عناك حتى وفاته.
لقد أنقذت قصيدة شاعرها من الإعدام . ولعب القدر دورا كبيرا فيب خلاص هذا الرجل . فلو لم يكن وزير الداخلية شاعر تأثر بما جاء في القصيدة وإن لم يكن الوزير على دراية كاملة بمزايا النائب المسؤول عن أجهزة الأمن الحادة والصارمة في أمور الدولة الأمنيّة لما نفذ الشاعر بجلده من الحكم بالأعدام.
وقد جاء في تلك القصيدة :

إن كنتُ من موسى قبسْتُ عقيدتي
فأنا المقيم بظل دين محمد
وسماحة الإسلام كانت موئلي
وبلاغة القرآن كانت موردي
ما نال من حبي لأمة أحمد
كوني على دين الكليم تعبدي
سأظل ذيّاك السموأل في الوفا
أَسَعِدتُ في بغداد أم لم أَسْعد

رحم الله أنور شاؤول وأحسن مثواه.
علاء الأديب


إسمه ونسبه :
.................
الشاعر الاديب انور بن شاؤل بن هارون بن يهودا بن يوسف بن ساسون، ينتمي الى اسرة بغدادية قديمة تحدرت من الشيخ ساسون صالح دود يعقوب المعروف بابي روبين، رئيس صيارفة ولاية بغداد على عهد الوالي سعيد باشا، وقد ذكره عباس العزاوي في الجزء السادس من تاريخ العراق بين احتلالين.

ولادته :
..............
ابصر انور شاؤول النور في محلة الكَلج بمدينة الحلة في محافظة بابل في 13 كانون الاول 1904 ونشط في الحلة واشتغل معلما.  ثم انتقل الى بغداد واشتغل معلما في المدارس الاهلية ودخل كلية الحقوق العراقية وتخرج فيها سنة 1931 وكان وطنيا غيورا اسهم في التظاهرات والقى شعره الوطني بين جماهير كلية الحقوق وحين صدر قانون الدفاع الوطني سنة 1934 وادخل خريجو المدارس العالية في دورات ضباط الاحتياط سنة 1939 كان الشاعر المحامي انور شاؤول في دفعة تلك السنة وقد كان فخورا بملابسه العسكرية العراقية بحيث التقط عشرات الصور الفوتوغرافية.

إسهاماته الوطنيّة والأدبيّة :
..............................
لم تكن اسهامات انور شاؤول الوطنية والادبية محدودة فقد شارك في تكريم العلامة عبد العزيز الثعالبي وكذلك دعا في بغداد الى تكريم عاشق بغداد الاستاذ زكي مبارك و كتب قصيدة جميلة في تكريمه عنوانها ورود من ليلى المريضة في العراق وفي العنوان مس بالحكومة العراقية ورثى الزعيم سعد زغلول بقصيدة كما رثى اصدقاءه بقصائد وفاء منهم على سبيل المثال عبد المحسن السعدون وجميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي كما رثى ابراهيم هنانو كما كتب شعرا في الحرية وفي استقلال افريقيا وحينما نشبت الحرب العالمية الثانية كتب هجاء لهتلر وموساليني.

شهادة الأديب أحمد حسن الزيات بحقّه:
.................................................
قال فيه الأديب العربي الكبير احمد حسن الزيات : ( انور شاؤول ثاني اثنين مهدا لكتابة القصة وعدا رائدين وكان الأول محمود احمد السيد ) وقال رائد القصة القصيرة العراقية والقصة الريبورتاج الاستاذ جعفر الخليلي ( انّ أنور شاؤول من اوائل كتاب القصة الحديثة واشهد ان مجلته الحاصد كان لها ابلغ الأثر في تشجيع كتابة القصة الحديثة والفنون الإبداعية والأدبية ).

أنور شاؤول والثراء الأدبي :
...................................
نظم الكثير من الشعر وكتب الكثير من القصص فقد تجاوزت 11 كتاباُ بين ديوان شعر وقصة , ولهُ قصائد جميلة لوصف الحرية وكرامة الشعوب ورفضه للنظام النازي في ذلك الوقت التي بشر بها هتلر والمفتي أمين الحسيني  مستشار رشيد عالي الكيلاني في العراق.


روح التسامح ورفض الحرب:
....................................
كان الشاعر يدعو إلى التسامح  ورفض الحرب والمأساة وذو المسحة الإنسانية ولكن  القدر وخطوب الحروب القاسية كان امتحاناً صعباً وقاسياً لهُ   حيث حرب حزيران عام 1967 التي كانت امتحانا عسيرا لكل أبناء العراق من يهود وعرب . وقد أثبتت وطنيتهم لرفضهم هذه الحرب , ولكن الحكام المستبدين والأفكار البدوية التي كانوا يعملون بها والسائدة على أفكارهم , أوقعت  على أبناء العراق من  اليهود, الاضطهاد والتعذيب والخطف  والقتل دون جرم اقترفوه , وحرموا من وظائفهم وعملهم . لكن الأديب أنور شاؤول كان له دور في المنتديات الأدبية في العراق ومنها المؤتمر العام للأدباء العرب  المنعقد في بغداد عام1969 الذي ألقى فيه قصيده عصماء رائعة دلت على حبه لوطنه وشاعريته الفذه :

 قلبي بحب بني العروبة يخفقُ           وفمي بضادهم يشيد وينطقُ
 أولست منهم منبتاً وأرومة              قد ضمنا الماضي البعيد الأوثقُ
واليوم نحو المجد نقطع دربنا           وإلى الغد ألهاني معاً نتشوقُ 
لكن الظلم والجور  والإضطهاد   واحتساب أنفاس أبناء الطائفة اليهودية من قبل الحكام فطالته يد  السلطة في نهاية ستينيات القرن الماضي فأعتقل وزجّ في المعتقل  لفترة طويلة  ثم أطلق سراحه .


مريان حبيبة الصبا والشباب :
.....................................
لقد إتسم شعره ذو القافية الواحدة  الخفيفة المتعددة في إطار التجديد والتنويع من مدح وغزل ورثاء , وقد هام في أيام شبابه بشابة تدعى  مريان  حباُ وهياماً صوفياً أُحادي الجانب , تلك الفتاة ذات الثغر النوراني فقد قال بحقها :
ابسمي لي ففي ابتسامتكِ سحرً           دائم الفعل في قرارة نفسي
 ابسمي لي مثل ابتسامة ألدراري         واطردي ذكريات يومي وأمسي
 هو ثغرً يذكي الصبابة في القلب          ويحيي الأهواء في كل حسي


أنور شاؤول والظهور الإعلامي:
......................................
شارك الشاعر والأديب أنور شاؤول  في الأمسيات الاذاعية والتلفزيونية ويشير البروفسور شموئيل سامي مورية استاذ الأدب العربي في الجامعة العبرية يقول: ( وقد وجهت الدعوة ألى الأديب والشاعر الكبير الأستاذ أنور شاؤول المحامي مرتين للظهور في ندوات أدبية في التلفزيون العراقي.


أنور شاؤول والرئيس البكر:
..................................
كما وقد أرسل لهُ الرئيس أحمد حسن البكر  باقة من الزهور عند دخوله إلى المستشفى للعلاج, فرأينا بهذه بادرة طيبة لحسن النية ولكن هذه البادرة الطيبة لم تدم طويلاً والخير الذي استبشر به الشاعر ابن العراق لم يدم  في عهد الظلم الذي وزع بالتساوي بين أبناء العراق  جميعاً , فقد هبت عاصفة التهجير   واغتصاب الحقوق ,  ومصادرة الأموال والأملاك للعراقيين اليهود, بحملة  جديدة وبمذبحة جديدة منها مذبحة عائلة  قشقوش  اليهودية العراقية.. فقد ذبحوا جميعاً والمتكونة من الأبوين وولدين كبيرين وبنت واحدة قد تخلصت من المجزرة بعدم تواجدها في الدار تلك الليلة.

أنور شاؤول صبّاغ أحذية:
................................
خلال الفترة من 16.07.1936 حتى 26.11.1936 نشر المرحوم أنور شاؤول في مجلته الأسبوعية "الحاصد" سلسلة مذكرات انتقادية طريفة مكونة من 20 فصلا كتبها باسم مستعار هو صباغ أحذية .


دار طباعة أنور شاؤول :
.................................
واسس دار طباعة باسم شركة التجارة والطباعة المحدودة وتولى ادارتها (1945م – 1960م).

له من المؤلفات:
........................
الحصاد الأول (1930م)،
عليا وعصام (قصة سينمائية، 1948م)،
 في زحام المدينة (قصص، 1955م)
همسات الزمن (شعر)، 1956م.

ومن مترجماته:
....................
وليم تل (مسرحية 1932)،
اربع قصص صحية (1935م)، قصص من الغرب (1937م)،
الطباعة العامة: فنونها وصناعاتها (1967م) الفخ،
نظم قسماً من ملحمة كلكامش البابلية شعراً.
اصدر ايضا كتاب «قصة حياتي في وادي الرافدين» عام 1980م .


أنور شاؤول يرثي والدته :
...................................
يمتاز انور شاؤول الشاعر بحس مرهف، ولعل لوفاة والدته وفقدانه حنان الامومة في طفولته اثراً في رقة شعوره. وقد خاطبها بابيات، كانت من باكورة شعره، تفيض لوعة وحناناً، فقال :

اماه، عيني بك ما متعت
ولم يحز منك فمي قبلة
وعيشتي بعدك ما اينعت
والقلب، يا آم، شكا علة
فان جفوني من جوى ادمعت
ليلا وروحي اطلقت انة
فمن ترى، يا ام، لي يسمع؟


المسحة الإنسانية في شعر أنور شاؤول :
..................................................
وتغلب على شعره وادبه عامة مسحة انسانية رفيعة: فهو يأس لبائعة الشوك التي يلذعها الزمهرير وينؤ ظهرها بحملها الثقيل ويدمي راحتيها الشوك تحمله لتدفئة المسعدين. وهو يحزن لمأساة الفلاح المنكوب الذي يذهب الفيضان بكده ومسكنه وقليل متاعه ويكاد يودي به وباسرته، حتى اذا ما نهض في الغداة جائعاً، عارياً، صفر اليدين حتى من الامل، سار بتبعه اطفاله ليطرق الابواب المغلقة دونه وليسمع رداً على شكاته عبارات الصد والانتهار :
«أيها الساكن في القصر الحصين»
هتف الفلاح: «هل من موئل؟»
«ليس بيتي ملجأ للشاردين»
صرخ الساكن في القصر العلي
ودمعة الفقير، والشفاء الصامت، والكوخ المحترق التي ترجمها عن الشاعر الفرنسي الفرد دي موسيه، امثله من الشعر الانساني الذي بزخر به ديوان «همسات الزمن».

مجموعة زحام المدينة القصصيّة :
........................................
 مجموعت القصصية «في زحام المدينة» حافلة هي ايضا بالنزعة الانسانية الصادقة: فهذا الحمّال الصغير يقر بسرقة لم يقترفها ويكاد يلحقه الضر من عواقبها الوبيلة. وذاك الدكتور يسري يؤنبه ضميره مدى الحياة لتخلفه عن معالجة طفل مريض، فينذر نفسه لرعاية الاطفال والعناية بهم. وابو فتحي الذي ثار وحنق على ولده لاقترانه بفتاة اجنبية دون رضاه؟ ان نظرة واحدة من حفيده الرضيع تمس اوتار قلبه فتبدد غضبه وهياجه وتغمر جنانه بالحب والحنان.

همسات الزمن تجليّات أنسانية أنور شاؤول ورقته:
.........................................................
وفي همسات الزمن شعر رائق يطرب ويعجب.. فالباحثة عن الذهب فتاة عرفها الشاعر «كقطر الندى صفاءاً وطهراً كزهر الربى» ترد الخاطبين واحداً بعد واحد حتى تحظى بالغني الذي يهبها كل شيء إلا الحب. وقصيدة «بجوار الموقد» ترينا الشاعر يحرك رماد الذكريات القديمة كما يحرك جمرات النار المتبقية في الموقد :

لم يبق لي إلا القريض وموقدي
وهما تعلة قلبي المتوجد
يا شعلة الحب المهيض، توهجي
فلعل حيران الرؤى بك يهتدي
النار في صدري وصدرك جمرها
مهما يطل جنح الدجى تتوقد
خبت المشاعر في الضلوع واورثت
للذكريات مجامراً لم تخمد



المدرسة الأدبية التي ينتمي اليها  أنور شاؤول؟
........................................................
لقد سأل أنور  نفسه هذا السؤال واجاب عليه في مقدمة ديوانه بانه لا يؤمن ان للشعر مدارس.. اما الحقيقة فان انور شاؤول ينتمي الى «المدرسة الانتقالية» على ما جاز تسميتها، وهي المدرسة التي ازدهرت بين الحربين العالميتين وترددت بين التقاليد والتجديد. كان الشعر العراقي يرسل انواره الضئيلة في ظلام عصر الانحطاط حين لاحت تباشير النهضة الحديثة في فجر القرن العشرين، فنشأت عند ذلك المدرسة التقليدية التي تزعمها الزهاوي والرصافي والشبيبي والشرقي واقرانهم ممن جددوا مواضيع القريض ومراميه، مع احتفاظهم بالصيغ والاساليب الكلاسيكية. وكان آخر ممثل لهذه الطبقة في ربوع الرافدين محمد مهدي الجواهري .
وفي فترة ما بين الحربين نشأت «المدرسة الانتقالية» التي ينضوي اليها انور شاؤل ومعاصريه من الشباب الذي اطلع على الاداب الغربية اطلاعاً مباشراً وتأثر بادب المهجر الاميركي الى جانب تأثره بشعر مصر ولبنان والزهاوي والرصافي. ولعل شعر صاحب «همسات الزمن» يمثل ادب هذه المدرسة اصدق تمثيل: فهو يترجم قصائد لشعراء فرنسيين وانكليز، وهو يترسم بين آونة واخرى خطى ايليا ابي ماضي وميخائيل نعيمة وصحبهما، ثم هو يتشبث الى جانب ذلك باذيال شوقي وحافظ ومطران والاخطل الصغير وشعراء المدرسة التقليدية العراقية الذين ادركهم وتتلمذ عليهم ولازم ندواتهم .


سمات شعر المدرسة الانتقالية
..................................
  تجمع من ناحية الاسلوب الشعر العمودي ذا القافية الواحدة واوزان الموشحات الخفيفة المتعددة القوافي. اما من ناحية الموضوع فهي توغل في الابتكار مع احتفاظها بالمواضيع القديمة من مدح وغزل ورثاء، ولكن في اطار من التجديد والتنويع. واما من ناحية اللغة والمعاني فهي لا تعني الجزالة والتراكيب الفصيحة قدر عنايتها بمجاراة روح العصر ومباراة المعاني والصور الادبية الغربية الحديثة.
ان المدرسة الانتقالية قد مهدت للمدرسة المتجددة التي نشأت في اعقاب الحرب العالمية الثانية – تلك المدرسة التي استهانت بالاساليب والمواضيع القديمة ونبذة الشعر العمودي جانباً وتهاونت في أمر اللغة وارتمت في احضان الرمزية والوجودية واشباههما، ولجأت الى فنون من الشعر الحر والتفاعيل المتكررة تحاول – وكثيرا ما اخطأها التوفيق – ان تخلق صوراً جديدة واحاسيس ونوازع فريدة لابناء الجيل الجديد.



قصّة حياتي في بلاد الرافدين:
.....................................
كتابه  قصة حياتي في بلاد الرافدين  صدر عن مطبعة الشرق العربية بالقدس 1980 ، وزينته مقدمة الأديب البروفسور شموئيل موريه باعتباره رئيسا لرابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق . ويشكل الكتاب مزيجا من المشاعر والمواقف والأحوال التي كان عليها العراق في السنوات الأولى للحكم الملكي بعد انزياح سلطة الدولة العثمانية وقيام الحكم الوطني ، كما تشكل بعض الإشارات التي يسردها أنور شاؤول بصدق الواثق من نفسه وبيقين العارف محبته وعشقه لجذوره في العراق ، تلك الجذور التي اثبت الزمن انه وغيره من يهود العراق أمناء عليها ما بقي الإنسان والعراق ، ونستطيع إن نتجاوز فنقول انه أرخ جزءاً من الضيم الواقع على أبناء العراق من اليهود ، والقحط الإنساني الذي حل في النفوس ، والممارسات التي حرصت السلطات المتعاقبة من العهد الملكي مرورا بعهود الانقلابات العسكرية على تنفيذها بحق تلك الشريحة العراقية ، التي تمسكت بالعراق بأنياط قلوبها وبرموش عيونها ، ورحل العديد منهم ولم يزل نخيل العراق ينتج فسائل داخل روحه ، فينقل تلك المحبة ويبوح لأجيال لم تر العراق بتلك العلاقة الأزلية بين الإنسان والوطن ، وبين الإنسان والإنسان
 يستذكر المؤلف طفولته ومرابعه في مدينة الحلة ومابين نهر الحلة وخرائب بابل ، وذكريات نابتة في الروح تتلون صورتها كلما عبرت سنوات أنور ، ومابين الصوب الصغير والكبير ، ومحلة الهيتاويين وثورة العشائر ، تشعر انه يتحدث عن قطعة من القلب تركها قسرا ، وان حروفه مغمسه بألوان الروح العراقية التي تمتد جذورها في أعماق التاريخ السحيق . وفي حادثة يسردها العراقي أنور تتضمن دلالة أكيدة على تلك الأواصر والروابط الإنسانية المتينة التي تربط العراقيين دون اعتبار للقومية أو للدين أو المذهب ، تلك الروابط التي كان يلتزم بها المجتمع العراقي ويتباهى بها الى جانب كل قيم الخير والنخوة والشهامة والكرم والمروءة ، فقد توفيت والدته ولم يزل رضيعا في الشهر السابع ، وفي لجة انشغال العائلة البحث عن مرضعة له ، تحل عليهم جارتهم ( أم حسين ) التي اعتادت إطعامهم التمر الأشرسي من نتاج نخلات بيتها ، تصطحب معها ابنة عمها ( وضحة - أم عبد الهادي ) التي تتبرع بإرضاع أنور ، ثم تقوم بإرضاعه ليصبح أنور شاؤول أخاً لعبد الهادي بالرضاعة . تلك الحادثة تعبر تعبيرا دقيقا عن عمق المعاني الإنسانية والقيم العراقية التي تسود المجتمع في تلك الفترات ، تلك الشهامة والتسامح والمحبة التي تسود حياة البشر ، وكيف نقارن تلك الواقعة مع ذلك الحقن المتخم بالكراهية الذي ساد بعد حال تجاه اليهود في العراق ، ( حتى تم رفع اسمهم اليوم من الدستور الذي انتظرنا أن يمنح الحقوق للجميع ) ،غير أن جذوة الحقد الأعمى التي تجعل فوارق وعلامات مختلفة على الأطياف العراقية ، فتوزع الوطنية والمواطنة درجات وفقا لمعايير دينية ضيقة أو قومية أو مذهبية أكثر ضيقا مزقت النسيج وأشاعت الفرقة اليوم . ومابين شط الحلة والطريق الى بغداد ، يبدأ أنور شاؤول مرحلة أخرى من حياته ، تشعر وأنت تقرأ له التصاقه بالعراق وحرصه النابع من وجدانه تجاه كل أهله الملك فيصل الأول.
وأذ يعبر العرش عن نظرته الإنسانية الدقيقة لمعالم الحياة العراقية من خلال خطاب الملك فيصل الأول ملك العراق وهو يخاطب أبناء العراق ، و الذي جاء فيه : (( لا شيء في عرف الوطنية اسمه مسلم ومسيحي وإسرائيلي، بل هناك شيء يقال له العراق... وإني أطلب من أبناء وطني العراقيين أن لا يكونوا إلا عراقيين، لأننا نرجع إلى أرومة واحدة، ودوحة واحدة ... وليس لنا اليوم إلا واسطة القومية القوية التأثير)) . وعلى هذه الأسس كانت تتعايش الناس ، ويعود أنور شاؤول يستعرض دراسته الابتدائية وانتقاله بين المدارس وتنقله بين المعلمين ، تشعر بتلك الحرية والفسحة من الحرية التي تتمتع بها الناس في بلد يتسع لكل الأطياف الإنسانية ، خليط من المسلمين والمسيحيين واليهود والصابئة المندائيين والأيزيديين ،لاتميز دياناتهم وخصوصياتهم ، كلهم يسعون لبناء العراق لاتحددهم خصوصيات أديانهم ، فلكل شأنه الخاص ودينه الخاص ايضا . وحين يستذكر أنور المعلمين الذين مروا بحياته ، والأسماء التي بقيت في ذاكرته ، لن يتجاوز أسماء علماء وشعراء من المسلمين كانوا يعملون في مدارس اليهود ، فيذكر السيد محمود الوتري وغالب العزاوي وفضيلة الشيخ عبد العزيز الشواف ( ص 62-65) ، وهذا الخليط المتنوع من الأساتذة والأسماء التي اسهمت في أنجاز الثقافة العراقية بكل خطوطها ، يدل على عمق ما تركته تلك النخب من أثر في تلاميذهم ليس في المعرفة والثقافة والتعليم ، إنما بالالتزام والأخلاق والوطنية . وأذ يستعرض أنور شاؤول جهاده في العمل ومتابعة التعليم ، فأن جذوة الشعر لم تنطفئ داخل روحه ، فكان ينظم القصائد ويبحث عن الشعراء ليتزود منهم ما يستطيع ، فيذكر عن علاقته بالشاعر جميل صدقي الزهاوي وبمعروف الرصافي ، حيث بدأ خطواته الشعرية في العام 1921 ، ثم اكتملت في العام 1925 ، بالإضافة الى مقابلته لشاعر الهند وفيلسوفها رابندرانات طاغور ، تلك الشخصية الكبيرة والمؤثرة.
ومن أشعاره عن الحلة الفيحاء قصيدة بعنوان مسرح الصبا :

يا ديارا حبها تيمني
لك في قلبي غرام أبدي
يا نسيما هب أبان الضحى
أنت جددت الهوى في كبدي
يا فراتا ماؤه قد لذ لي
لك إني عطش من آمد بلدي
افديك إن عز الفدى بلدي ..
ياطيف أمسي في غدي
هاك مني القلب ذكرى لاتني
 في الوفا صادقة للأبد

ويتابع ذكرياته وعمله في الصحافة العراقية واضعا قدمه على أسس راسخة ، ومن كلية الحقوق الى الشغف بالشعر والعمل في الصحافة ، يستذكر علما من أعلام القانون ومرجعا تعتز باسمه المحاكم العراقية حتى اليوم ، انه القاضي داود سمره ، القانوني الضليع والكبير والنزيه العادل ، وكان أول حاكم لمحكمة البداءة في العراق في العام 1917 ، فيخصص له جزءاً مهماً من هذه الذكريات العبقة.


أسماء في ذاكرة أنور شاؤول                                                                                       
......................................
ويعود شاؤول لاستذكار الأسماء التي رافقته في رحلة العمر ومزقت شملهم الأيام ، فيذكر منهم جميل عبد الوهاب الذي صار وزيرا للعدل وصهرا لنوري السعيد ، ويونس السبعاوي احد الضباط الأربعة الذين تم تنفيذ الإعدام بهم ، وعبد القادر إسماعيل الكادر السياسي اليساري والمحامي اللامع ، وعزيز شريف القاضي والسياسي وعضو مجلس السلم العالمي ووزير العدل ، حيث كانوا رفاق رحلة كلية الحقوق.


أنور شاؤول محاميا :
..............................
بدأ الكاتب ممارسة مهنة المحاماة في خريف العام 1931 مندفعا واثقا من قدرته على العمل ، يخوض تجارب تؤهله لأن يكون من المحامين المتميزين في بغداد ، غير انه بعد سنوات لا تتعدى أصابع اليد ارتبط بوظيفة مشاور قانوني لنظارة الخزينة الملكية الخاصة ، بالإضافة الى عمله وكيلا عاما عن شركة دخان طبارة وعبود ، وبالنظر لتوسم السلطات القضائية بثقافة وحيادية أنور شاؤول فقد جرى انتخابه خبيرا في العديد من الوقائع السياسية منها أو الثقافية أمام المحاكم العراقية .
وكان لمجلة الحاصد تأثير روحي كبير في نفس شاؤول ، فقد رعاها بماء العيون وسقاها من ثقافته الإنسانية ، وكان للمجلة تأثير واضح وإسهاما بليغا على الثقافة العراقية والجمهور العراقي المتابع ، ما جعلها من بين الصحف والمجلات الشهيرة في العراق وبالتالي صار اسم أنور شاؤول مشتهرا ومعروفا ايضا .
نظرة قانونية الى المتهم السياسي ويوجه الكاتب في الصفحة 166 من الكتاب نقدا للقانون الجنائي العراقي بصدد النظرة الى المتهم السياسي ، ويطرح أفكاره للتفريق بين المتهم العادي والسياسي في أمور لعله لم يكن يتوقع أن يأتي زمان تصر فيه السلطات الحاكمة في العراق على مخالفة تلك المقترحات التي صارت التزاما دوليا ونصت عليها لوائح حقوق الإنسان ، فيتم تعاملها مع المتهم السياسي بأقل قيمة من المجرمين العاديين ، وتلك مصيبة نظرة تلك السلطات حول قضية الفكر . ومن خلال مسيرة أنور وأوضاع اليهود العراقيين تتلمس ذلك التمازج الإنساني في الحياة ، تلك الحياة البسيطة ، الحرص الذي يلتصق به الجميع ، متطلعين نحو مستقبل يليق بالإنسان . ويستمر أنور شاؤول في اسهاماته الثقافية وإثراء المكتبات العراقية ، ليس فقط بأشعاره وقصصه الواقعية ونقده اللاذع ومقالاته الصحفية ، إنما من خلال تأسيسه لشركة الطباعة التي ساهمت في أنجاز العديد من التراجم والإصدارات العراقية المهمة . وفي التفاته عن أجواء الحرب العالمية الثانية وما أحدثته النازية من خراب في النفوس ، فقد كان قلة ممن فقدوا الوعي وغفت ضمائرهم يناصرون النازية ويمجدون هتلر زعيم الحروب وقائد الموت ، مع أن تلك النازية تعتبرهم أقل من القرود منزلة ، ولاعجب في بعض ممن يجد في الظالم معبودا وفي السلطات الفتاكة والطاغية خلاصا وانسجاما مع روحه المسكونة بالذل والتردي والانكسار . ولاريب أن مشروع الطباعة الذي أقدم عليه أنور شاؤول في منتصف الأربعينيات عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية ، لم يكن مفروشا بالورود بل كان مشروعا جازف بكل ما يملك من اجل إن يجعل كلمة الحق والثقافة تنتصر ، ليسهم أنور في انتشارها والانتصار لها ، وبالرغم مما كان يعانيه العراقي اليهودي من كبت وقيود وظلم ، لكنه مضى في الطريق بالرغم من كل الغيوم الملبدة التي تغطي الأجواء وتثير الريبة ، إلا أن الروح تلك المتجذرة والنابتة مثل النخل لاتتردد في إن تثق بمنبتها وجذرها الغائر في أعماق العراق ، فقد كانت ثقة أنور شاؤول بالعراق كبيرة ولاتوصف .
فيدور دولاب العمل والزمن ، ويتحدث شاؤول عن مواكب النازحين وإسقاط الجنسية وحجز الأموال وتجميد الأموال والأرصدة ومنع السفر ورقابة الأمن ورقابة الهواتف ، ولكن دار الطباعة تنشر تأريخ العراق بين احتلالين لعباس العزاوي ، وتنشر ديوان الشيخ علي الشرقي وتنشر كتاب الحاكم الأديب مصطفى علي ( جرائم مرت أمامي ) ، وتنشر مباحث في الاقتصاد العراقي ومجموعة قصص للكاتب مير بصري ذلك الطود العراقي الذي بقي يعطي للعراق حتى اخر ايام عمره ، وكتب أخرى للعلامة مصطفى جواد والشيخ جلال الحنفي ونعمان ماهر الكنعاني وعلي الخطيب وبلند الحيدري وحسين مردان وبسيم الذويب . كل هذا وإسقاط الجنسية والتجريد من الحقوق على قدم وساق ، فيأتي شباط 1963 الأسود يزيد حلكة الحياة في العراق ، ثم يأتي عهد دولتي أبناء محمد عارف الأسود منها والأبيض ، وفي كل تلك الأحوال تزداد قرارات التعسف والمنع والمراقبة وتحديد الإقامة ، وضياع الحقوق في الدستور ، والتنكر لكل المقاييس والالتزامات تجاه رعايا يحملون جذور العراق في أهداب عيونهم . وقد تعبر الأبيات التي خطها أنور شاؤول عن الحزن المنكسر في قلب الإنسان فيقول :
قطعت دروب العمر أهبط تارة وطورا الى الأعلى أغذ وأصعد وقلت سألقى الحق يوما وأن نأى فأطرد أحزاني بعيدا وأسعدا ومر من العمر المقدر جله وكادت يد الأيام بالعزم تقعد
وأذا بنداء الحق يطرق مسمعي لعمرك أنت اليوم عني أبعد وإذ تتقطع الأوصال وتتبعثر العائلة ، يشيخ أنور شاؤول بعدما تكلس الحزن في قلبه ، فيزيد جدرانه صدأ وقيح ، وتدفعه الأيام ليشعر بالوحشة والغربة في وطنه وبين أهله ، بعد أن غادره الأولاد والأحبة ، وبات شيخا يشعر بمكابدات الوحشة والفراق ، فيلملم روحه بعد مكابدات ومنازعات عديدة ، وبعد أن صارت ملفاته كبيرة في دوائر الأمن دون جريرة أو تهمة ، وبعد أن تعددت مرات استدعاءه أمام ضباط الأمن وجلاوزة التحريات ، فيغادر جذوره ويحمل روحه مع ما تعلق بها من تراب العراق.


أنور شاؤول عراقي وطني للنخاع :
........................................
ولعل أنور شاؤول حين نظم رباعيته الخالدة كان يعبر عن أحاسيسه كعراقي يحمل جذور العراق في تلافيف روحه ، كابد وأصر أن يبقي تراب العراق ينتشر فوق ذلك القلب الكبير ، صلبا ومتحديا كل عوامل الزمن الرديء ، يصد كل عاديات الأيام التي بدأت تنحدر من سيء الى الأسوأ ، لم يكن يعرف أن السموأل صار أسما في الذاكرة المنسية لايعرفه العديد من أبناء العراق ،والسموأل (القرن السادس الميلادي) شاعر يهودي، ضحى بولده من أجل حفظ الأمانة، واشتهر بلاميته ، التي منها البيت المشهور: إذا المرء لم يدنس من اللوم عرضه  فكل رداء يــــرتديــــه جميـــل .


قصيدة أنقذته من الإعدام :
...............................

في نيسان 1969، شنت الحكومة العراقية واجهزتها الامنية بامر من نائب رئيس الجمهورية صدام حسين انذاك وناظم كزار مدير الامن العامة، حملة لتصفية المجموعة الباقية من يهود العراق " حيث القي القبض على الشاعر اليهودي أنور شاؤل وكان من المتوقع ان يعدم في الايام القادمة " لكنه استطاع من إرسال قصيدة من الشعر إلى وزير الداخلية صالح مهدي عماش الذي كان محباً للشعر بشكل كبير " عندما قرأ القصيدة صالح اهتز لكلماتها :
إن كنتُ من موسى قبسْتُ عقيدتي
فأنا المقيم بظل دين محمد
وسماحة الإسلام كانت موئلي
وبلاغة القرآن كانت موردي
ما نال من حبي لأمة أحمد
كوني على دين الكليم تعبدي
سأظل ذيّاك السموأل في الوفا
أَسَعِدتُ في بغداد أم لم أَسْعدِ
بدورة قام صالح باارسالها إلى رئيس الجمهورية احمد حسن البكر ، فأمر باطلاق سراحة والسماح له بالسفر خارج البلاد. فذهب إلى انكلترا التي عاش فيها وحيداً ثم ذهب إلى إسرائيل  ليكمل حياته هناك.


وصيته قبل وفاته في اسرائيل:
......................................
قبل وفاته اوصى ان يكتب في شهادة الوفاة الجنسية عراقي وليس اسرائيلي
قصة وفاء.....وحب لهذا الوطن الذي ولد فية وترعرع  اكتبو عراقي وليس إسرائيلي .

وفاته :
..............
وافتهُ المنية يوم 14 كانون الأول  1984
في منفاه في اسرائيل الذي قادته اليه ضرورات الخلاص من سطوة السلطة التي كان له منها الإعدام لولا قصيدة.

رحم الله الأديب العراقي اليهودي أنور شاؤول وأحسن مثواه
وإلى لقاء آخر مع أديب منسي آخر من بلادي.


المصادر
............
ويكبيديا الموسوعة الحرة
الكاردينيا
كتابات / عبد الأله الصائغ
منتديات ستر تايمز
مركز النور/ نبيل الربيعي
جريدة البصرة الألكترونية
صحيفة الأخبار
المدى للثقافة والفنون والآداب
صحيفة التآخي
...........................................




علاء الأديب
تونس / نابل
30-11-2018

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق