مجلة صدى بغداد
العدد السادس لسنة 2019
أدب المقامة
فازَتْ السَّحَالي إذْ نادَتْ "يا خَالي"
الكاتب والفنان التونسي توفيق بن الطاهر صغير
حدَّثني أحَدُ الجيرانِ قال:
أعْلَمُ يا عَافَاكَ الله أنَّكَ مِنَ الثِّقـَاتِ، تَرْتَادُ طِيبَ المجَالِسِ والمُلْتَقيَاتِ، فَاسْمَعْ مِنيِّ ذَا المنَام، وانْثُرْهُ كمَا دَأْبـُكَ منْذُ أعْوَام.
رَأيْتُ فِيمَا يرَى أسْعَدُ نـَائِم، خَصِيبًا سُبْحَانَ ربِّكَ الدَّائِم، سُكَّانُهُ مِنَ الكَوَاسِرِ والطَّيْرِ والبهَائِم، تَكسُوهُ خُضْرَةٌ تَتَمَاهَي ومَرْمَى العَيْن، وكَثُّ أعْشَابٍ غَطىَّ منيِّ السَّاقيْـن، وجَدَاولُ مَاءٍ شَعَّ لُجُّهَا كمَا يَشِعُّ اللُّجَيْن. ولمَحْتُ يا سَامِعِي فِيمَا لمَحْت، دَوَابًا تَحُثُّ حَثِيثًا مِنْ فوْقٍ ومِنْ تَحْت. تُسَارع ُإلىَ مَكَانٍ هُو إلى الميْدَانِ أقْرَب، دَلَفَهُ الدَّاجِنُ والزَّاحِفُ وذُو المِخْلب، وانْتَبِهْ يا صَاح لتَسْمَعَ الأعْجَبْ : فَقَدْ كانَتْ الخِرْفانُ تختَالُ أمَامَ الذِّئْبِ والثَّعْلب، وحَطَّ البَازِي منْ عَلـُو وهو يحْمِلُ الأرْنَب، فيمَا كانَ الفأرُ والقِطُّ يُؤْنسَان خَطْوَ العَقْرَب. ظِبَاءٌ وسِبَاعٌ في توَادِّهِمْ جَمُّ السَّخَاءِ، وبِغَالٌ تسِيرُ أمامَ الدِّبَبَةِ بخُيَلاء، ولم ألمحْ قطُّ شَكْلاً منْ أشْكال الفُرْقَةِ والعِدَاءِ.
كانتِ الأسْرَابُ تُرَدِّدُ في لَهَج وانْتِظَام : "الشَّعْبْ .. يُريدْ .. تغْييـــرَ .. النِّظَامْ". وكمَا لا شَكَّ تفْهَمُ زخَمَ الأحْلاَم، فلن تسْتَغْرِبَ أنِّي سَمِعْتُ لهمْ فصِيحَ الكَلاَم، وغَابَ بالتَّالي فحِيحُ الأفَاعِى وثُغَاءُ الأغْنَام وكذَا نقِيقُ الضَّفَادِع وزَمَارُ النَّعَام، كمَا لمْ أسْمَعْ مُوَاءً لقِطٍّ ولا نُبَاحَ كلْبٍ ولا هَديلَ حَمَام، وصِرْتُ في شَرَاكَةِ لِسَانٍ معَ البَكْمَاءِ والأنْعَام. وبما أنِّي دائِبُ البَحْثِ والسُّؤَالِ، فقَدْ اسْتَفْهَمْتُ الأمْرَ منْ ظَبْي غَزَال، فحمْلقَ فيَّ مُسْتغْربًا وقَال :" ألمْ يأتِكَ خبَرُ الصَّحْوَةِ والنُّهُوض ؟ فلا عَاشَ فينَا منْ رَامَ التَّرَاخِي والرُّبُوض. تعَال أيُّهَا العَابِرُ نُشْهِدْكَ هبَّةَ الوَلُودِ والبَيُوض...".
ما لُكْتُ العَرْضَ فِي خَاطِري بلْ تَهادَيْتُ، ولمْ أُدْركْ لقَدَمِي موْطِئًا بقَدْر مَا مَشَيْتُ، حتَّى وجَدْتُنِي في قَلْبِ سَاحَة، أعِيدُ مَا يُرَدِّدُهُ القَوْمُ بذَاتِ الفَصَاحَة، وحُظِيتُ بوِدٍّ زَادَ منْ إحْسَاسِي بالرَّاحَة. ثم غَادَرْتُ بعيْني إلى أوَّلِ السِّرْبِ، لأكْنَهَ الشِّعَارَات أللسِّلْمِ هِيَ أمْ للْحَرْبِ ؟ فإذَا هِيَ خُلاصَةُ مَا عَرَفْتُ مِنْ مُثُلْ، تنْطَلِقُ في ألَقٍ منْ حَلْقِ وَرَلْ، ويزيدُهَا ترْدِيدُ الثَّائرينَ دَلاًّ علىَ دَلٍّ.
وظلَّ الحرَاكُ والصِّيَاحُ لفتْرَةٍ دُونَ إجَابَة، ولم يبْدُرْ منَ الجمُوع فُتُورَ عَزْمٍ ولاَ طيْفَ إناَبَة، حتىَّ أطلَّ منْ خَلْفِ الأكَمَةِ سَيِّدُ الغَابَة، يُرْعِدُ ويُزْبِدُ ويُطْنِبُ فِي رَفْعِ السَّبَّابَة، ثمَّ زَأرَ بحَنَقٍ حتى كادَتْ تزُورُنا أنيابُه، واصِفًا الجمِيعَ بالشَّرَاذِمِ وبالعِصَابَة. وأمَامَ نبْرَة التَّهْدِيدِ والوَعِيد، ترَاجَعَتْ السِّبَاعُ والضِّبَاعُ إلىَ رُكْنٍ بعِيد، واسْتَرْحَمَتْ سَيِّدَهَا أنْ يغْفِرَ للعَبِيد. فشَزَرَ أوَّلاً حتَّى أشَلَّهُمُ الوَجَلْ، ثمَّ اسْتَفْتَى ولاءَهُمْ علىَ عَجَلْ، وأمَرَهُمْ بإحْضَار رَأسِ الفِتْنَةِ مُشِيرًا إلى الوَرَلْ.
قهْقَهَ الوَرَلُ ورَدَّ بتَحَدٍّ وباطْمِئْنان :"شهَادَتُكَ شَرَفٌ لي أيُّهَا الجِلْفُ الجَبَان، ألاَ تصُونُ مَا بقِيَ لكَ منْ هيْبَةٍ وتُغَادِر المكان، قبْلَ أنْ ترْكُلَ مُؤَخَّرَتَكَ السَّحَالِي والجُرْذَان ؟ ... خِطَابُكَ كمَا خَبِرْنَاهُ كَرِيه، ورَدُّكَ هذَا يُؤَكِدُ بأنَّكَ سَفِيه، ولم يعُدْ لكَ ورَبِّي إلاَّ العَتَهَ أو التِّيه، ارْحَلْ يَا قَحْطَ العِمَامَة، ارْحَلْ عَافَتْكَ السَّلاَمَة "
وَلْوَلَ الضِّرْغَامُ كمَنْ أصَابهُ الصَّرَعْ، وأوْمَأَ بحَاجِبَيْهِ يسْتَنْهِضُ الضَّبُعْ، فهَبَّ الأخِيرُ مُكشِّرًا كمَا هُو الطَّبْعْ، وسَارَعَ إلى الوَرَلِ ينْوِي احْتِوَاءَهُ، لكنَّ الوَرَلَ انْسَابَ بخِفَّةٍ إلىَ تَلَّةٍ ورَاءَهُ، فلحِقَهُ الضَّبُعُ مُنْتَشٍيًا مِنْ صَبْوَة، وسُرْعَانَ مَا غابَ الإثْنَانِ خَلْفَ الرَّبْوَة. ومَا فَتِئَ أنْ تَصَاعَدَ الغُبَارُ واشْتَدَّ الصُّرَاخ، ثمَّ فُوجِئْنَا بالتَّابِع يُوَليِّ وهوَ يشْكُو الصَّاخ، وقدْ زَادَ عَرَجُهُ عَرَجًا، واحْتَمَى بالجُمُوع ينْشُدُ فَرَجًا. فعَجِبْنَا فِعْلاً ومَا زَالَ العَجَبْ، حتى بَرَزَ الوَرَلُ مُبْتَسِمًا بأدَبْ.
وبيْنَا الجَمِيعُ يَسْتَقْرِئُ المشْهَدَ، أمَرَ الأَسَدُ الذِّئْبَ أنْ يَنْهَـدَ، فعَبَّ في الهَوَاءِ عَبًّا، وأجْزَلَ للأَوْرَالِ شَتِيمَةً وَسَبًّا، قبْلَ أنْ يقْفِزَ مُخْتَالا للنِّزَال، مُهَدِّدًا خَصْمَهُ بسُوءِ المآل، لكنْ كَمَا كانَ في بارِحَةِ الحَالِ، لم يُبْطِئ المخْتَصِمَانِ وَرَاءَ التِّلاَلِ، حتىَّ تقَهْقَرَ الذِّئْبُ وهوَ يَثـِرُّ ويعْوِي، كمَنْ ذَرَعَهُ القْيْءُ منْ الْتِوَاءٍ مَعَوِي. وبَانَ الوَرَلُ يتَهَادَى بذَاتِ الهيْئَة، يلُوكُ هِجَاءَهُ علىَ الأُسْدِ منْ قاَمُوسِ "الحُطَيْئَة".
وهكذَا تطَابَقَ الشَّأْنُ وتَوَاتَرَ الأمْرُ، فمَا كَانَتْ هبَّةُ زَيْدٍ بأفْضَلَ منْ نَفْرَةِ عَمْر، حتى إذاَ أُثْخِـنَ فِي اللَّبُؤَةِ والفَهْدِ والنَّمِر، برَزَ الأسَدُ في ثوْبِ الوَاثِق، يَضْرِبُ الأرْضَ فيَحْفِرُ المنْبَسِطَ ويبْسُطُ البَاثِق، وطبْعًا كانَ مِنًّا القَهْقَرَى والفِرَار، إلا منْ تجَمَّدَتْ فَرَائِصُهُ منْ اضْطِرَار، فعَاجَلَهُ البَوْلُ في مَكانِهِ وشَخُصَتْ الأبْصَار. أمَّا الوَرَلَ فقَدْ انتفَخَتْ منْهُ الأوْدَاجُ والدَّوَالي، وأرْسَلَ كشِيشًا فيهِ مَا فيهِ منَ التَّعَالِي، ثمَّ جَرَّ غريمَهُ -كمَا عَوَّدَنَا- إلى جِهَةِ التِّلاَلْ، وهذِهِ المرَّةَ سَمِعْنَا لهُ حَدِيثًا بمثْقَالْ : "هَذَا أيْضًا منَ الأعْدَاءِ يا خَالْ .." . فجْأةً أطَلَّ منْ خَلْفِ القُفِّ فَحْلُ تَمَاسِيح، فاغِرًا شِدْقَيْهِ مُقْبِلاً بشَكْلِه القَبِيح، وأطْبَقَ علَى اللَّيْثِ المصْدُوم فدَقَّ عِظَامَه، وكفَى القَوْمَ ظُلْمَ السُّلْطَانَ وجَوْرَ نظَامِه.
عَمَّ الفرَحُ وتعاَلىَ بيْنَنَا الهتَافُ والتَّهْلِيل، ورُفِعَ الوَرَلُ كمَا "خَالُهُ" عُرْبُونَ حُبٍّ وتبْجِيل، أمَّا أنَا فَقَدْ سُحِبْتُ بصَوْتٍ لي فيهِ دَليِل، أنْ قُمْ وابْتَغ لنَا رِزْقًا أيُّهَا البَخِيل ... فَقَدْ كانَتْ أمُّ العِيَالِ علىَ سُوءِ طَبْعِهَا، تُوقِظُنِي كمَا تُنَاخُ الإبِلُ في رَبْعِهَا. فأفَقْتُ مَذْعُورًا لأصْطَبِحَ بصَوْتٍ رَكِيكْ، وتسَاءَلْتُ : أأثُورُ علىَ النِّظَامِ أمْ أبْدَأُ بتَغْيِيرِ الشَّرِيكْ ؟؟"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق