العدد 2 لسنة 2017
الشاهدة
القاص العراقي عبد الكريم الساعدي
جئت من بلاد بعيدة، تحدوني رغبة السبق، يُخيّل إليَّ أنّ الطريق حفنة من خطوات، وأنّ محطات الفجيعة شارفت على النهاية، ممّا منحني بعض السكينة، أترجّل من صهوة رحلة طويلة عند مسافة تجوسها ضفّة الخراب، عينايّ تلوكان حطام الخرائب، أجد ضالتي هنا، أمسح عدسة آلة التصوير، تصفعني الدهشة لِما رأيت، المكان مزدحم بالغموض، يرتدي معطفاً من خوف، تحاصره برك الدماء، تتخطّفه جيوش السكون، النوافذ نبتت عليها أشلاء القتلى، الطرقات تتعثّر بخطوات أنهكها الفزع، أتهجّى لون الموت، أسند ظهري إلى جذع شجرة، أغرق في ظلّ أغصانها، أطلق لآلتي العنان، يشتبك وميضها مع صهيلٍ ينضح بالأسرار، تفتح لي أبواباً لم يلجها أحد قبلي، أنتزع صوراً مرعبة من غزوة الموت، أتشكّل جسراً يمتدّ من أطراف مخيم صبرا حتى وكالة الأخبار التي أعمل فيها، يسكنني صوت الحذر، يبعثر أحلامي:
- لا تخاطري بالبقاء، احزمي حقائب العودة، المادة التي وصلت كافية.
- امنحني ساعة واحدة.
أضفر خصلات آخر صورة لسيارة إسعاف قادمة من الجنوب، أقترب منها أكثر، لم تقل جرحى، كانت مكتظّة بالأطفال والنساء، أوقفت التصوير، فكرت أن أعود أدراجي، إلّا أن صوت مروحية قريبة أغوتني بالانتظار، كأنّي على حافة الهدف أسير، أقتنص مشهداً للحاجز الدولي الخالي من عناصره، المروحية تقترب، تطلق صاروخاً، ينفجر وسط الشارع على مسافة قريبة منّي، كتلة هائلة من اللهب تتصاعد، دخان كثيف يحجب الرؤية، يمحو ملامح سيارة الإسعاف، الغبار يغطّيني، أمطار من الحصى والحجر تبلّل جبهتي بالدماء، الذعر يتملّكني، الفضاء يضيق بي، أنتعل خوفي، أهرب إلى الجانب الآخر؛ ثمة رجل يخرج من بستان، يحمل طفلين، أحدهما رضيع، تركض إلى جانبه فتاة، رجل آخر ينضم إلى المشهد، يلحق بهما، يأخذ الفتاة بين أحضانه، أسراب من المتعبين تمضي خلفهما، تستظلّ بحصون الدهشة والموت، أنظر إليها من خلف وهج الحرائق، صدى الصراخ يرسم لوحة متوهّجة بالجنون:
- أولادي الأربعة ماتوا… أربعة أولاد يا عالم.
أتصفّح عيني الفتاة، تصافحني دموعها، أستنشق أنفاسها اللاهثة بنار اللوعة:
- أختي انفجر رأسها… يا ويلي بدّي أختي.
أراوغ شهقتي، أمسح دمعي، أسقط في دائرة الاستغراب، صوت آخر يخز قلبي، يبدّد حيرتي، يشير إلى جهة البستان:
- أطفال ونساء احترقوا في سيارة الإسعاف.
يا للهول! سيارة الإسعاف تستحيل إلى قبر محنّى بالدماء، صور مرعبة ترتصف أمام عدسة آلة التصوير، تسرد تفاصيل المجزرة؛ طفلة يتدلّى رأسها من زجاج نافذة السيارة، دمها يخطّ علامة استفهام، نساء يحتضنّ فتيات صغيرات، ينازعن سكرات الموت، أشلاء مبعثرة، أصوات مخنوقة، امرأة في العقد الخامس كشفت الشظايا منديلها، فبان شعرها الأشيب وقد حنّته الدماء، وإلى جانبها سيدة فُقئت عيناها، أنين وعويل يلفّان المكان، جدائل منسدلة على ذراع مزّقته الشظايا؛ في تلك اللحظة تهمس الريح في أذني، أنت الشاهدة والشهيدة.
غربان المدينة تقطع الطريق علينا، غربان مدجّجة بمخالب الغدر والخديعة، تطوّق وجودنا من ثلاث جهات، لم تسمح للصحفيين ووكالات الأنباء بالدخول، أيمّم وجهي شطر البحر، أعبر شارع مختنق بالوحشة، تصفعني صورة رجل عجوز، ملقى على الشارع، مضرجاً بدمائه، ساقه الخشبية ملقاة بالقرب منه.
الليل يحتدم بشظايا شهوة القتل، يحرك بوصلة حلكته صوب كلّ ما هو جميل؛ فرزختْ خطواتي في فلك أسوار أوصدت أبوابها سكرى، راقصة بفرح جنوني فوق أجساد مخذولة، أدسّ آلة التصوير بين ضلوعي، ألوذ بآثار الهاربين، لعلّي أخرج إلى العالم بأشلاء الموتى، الطريق ينهش خطواتي بمخالب التيه، يهدّني التعب، أحثّ الخطى نحو أحد البيوت المسكونة بالرعب، أصعد إلى سطح الدار بعدما غلبني النعاس، إلّا أن صوتاً حزيناً ينبعث من أحد غرفه يجذبني إليه، امرأة عجوز تنشد المواويل لرأس مقطوع، منتصب، شوهت السكاكين معالم وجهه، إلى جانبه بركة دم، تحاوره، يحاورها:
- أم كايد، غطّي شعرك، لا تحزني، سنلتقي ولو بعد حين.
- لا أستطيع أن أنسى ما فعله الوحوش بنا، أكاد أن أفقد عقلي.
- ما أحوال قريتنا؟ وأهل المخيم، أين رحلوا؟
تحلّق في أفق الفجيعة، تهرول بين أزقة معتمة:
- يا ليتني لحقت بك، ولم أر ما رأيت؛ قتلوا قاسم أبا حرب ووالده وأخويه، قتلوا علي الطوخي وسعيد العابدي وأخوته ووالدهم المسكين بدم بارد، قتلوا ماجد خريبي وأحمد حشمي وعبدالسلام بركة، ورجلاً اسمه ماضي وعائلته... عفاف، أتذكر عفاف بنت محمود؟ جارتنا الجميلة، الطيبة، قتلوها يا أبا كايد أمام أبيها.
تحدّق بالرأس، تمسح آثار الدم، تقبّل عينيه، تلطم وجهها، تهيل التراب على رأسها، تنهمر دموعها، يمتعض الرأس، يعبس:
- لا تجزعي، عند المصائب لا ينفع غير الصبر.
- لقد بقروا بطن أم مبارك بسكين طويلة، لم يكتفوا بذلك، بعثروا أحشاءها، أخرجوا جنينها، أجهزوا عليه بالرصاص قبل أن يتمّ صرخته الأولى، أرأيت أبا كايد من قبل صرخة موشومة بالوجود والعدم في آن واحد؟ وتريد منّي أن أصبر، يا للعجب!. في تلك الليلة لا شاهد سوى قمر غفا مع أحلام الطفولة خلف القنابل المضيئةِ سماء المدينة، أمدّ بصري إليه؛ لعلّه يسرّني بما رأى، أتوسّله دون جدوى، فقد تدثّر بغيوم عابرة؛ ألتفت إليها، أخلع أثواب ذهولي، أحتسي بعضاً من كأس جنونها:
- من فعل كلّ هذا؟
تحتضن الرأس، لم تنفرج شفتاها؛ لكنّها قالت كلّ شيء حين أشارت بيدها ناحية الجنوب؛ أنسلّ بهدوء، أمشي على أطراف أصابعي بين أشجار الليمون، أتسلّق حائط حجري، أمدّ بصري، يرتدّ الطرف فزعاً، هدير جنازير دبابات وجرافات، مسلحون يدفنون الأموات والأحياء في حفرة كبيرة؛ أشهق خوفاً، دمي يجفّ، أنفاسي المتقطّعة تكاد تعلن حضوري، تنتصب أمامي نجمة سداسية، المسافة التي بيننا يسكنها الجحيم، أحتلّ مكاني محتمية بأغصان الليمون، أهيّئ نفسي لأثمن صورة، أمدّ عنق كاميرتي، عينها تقبض على ملامح النجمة، تلتقطها، وقبل أن يبتسم الحلم تباغتني رصاصات، تسقطني أرضاً مضمّخة بدمي، آلة التصوير تفزّ، تتدلّى من أحد غصون شجرة الليمون، تحدّق في احتضاري، تغازل عينيّ، تومض عدستها بآخر صورة قبل أن أعانق ظلّ السماء؛ لتحتضن وجودي بين أشلاء الموتى.
*إحدى قصص مجموعتي الخامسة
( هابيل...ون)/ مخطوطة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق