العدد السادس لسنة 2017
قراءة في قصيدة الشاعر العراقي الدكتور إبراهيم الفايز الشعيبي
للأستاذة الأردنيّة /هدى مصلح النواجحة
ضاق صدري
زرعتكَ في شغَاف ِ القلب ِحتى
سحرتَ حشاشتي وملكتَ أمري
سحرتَ حشاشتي وملكتَ أمري
وإني لا أطيقُ جفاكَ يوماً
فخذني في مساركَ حيثُ تسري
فخذني في مساركَ حيثُ تسري
ولن أرضى كتاجكَ ترتديني
ولكنّي كظلكَ حيث تجري
ولكنّي كظلكَ حيث تجري
فإنْ غابت شموسُكَ لا تراني
ولا ظلاً تراهُ عليَّ يسري
ولا ظلاً تراهُ عليَّ يسري
سألقي فيك َ أشرعتي وأمضي
لتهربَ منك قافيتي وشعري
لتهربَ منك قافيتي وشعري
فلي قلبٌ حوى الضدينِ عمراً
ولكِنِّي ببعدك ضاق صدري
ولكِنِّي ببعدك ضاق صدري
إذا الأغرابُ قد دفنوا رفاتي
فلا تسأل جوارك أين قبري
فلا تسأل جوارك أين قبري
وإن أشبعتَ هجركَ من حياتي
فموتي لن يضيركَ بعد هجري
فموتي لن يضيركَ بعد هجري
متى يا أيها الوطن المُفدّى
تعيدُ حشاشتي ليعودَ نشري
تعيدُ حشاشتي ليعودَ نشري
القصيدةُ من جميل ما قرأت للشاعر إبراهيم الفايز .
لعتبة النص العنوان (ضاق صدري )إشارة واضحة على معاناة ومكابدة الشاعر فجمع قصيدته تحت ما يخصه دون سواه , وقد جاء العنوان صراحة مما ساقه في البيت السادس في القصيدة بعد أن أفرج عن سبب ضيق صدره وهو البعد عن الوطن .
والقصيدة من تسعة أبيات ذات فكرة واحدة. وهي مناجاة للوطن وبيان عمق حبه له .
والشاعر يتأدب في حضرته , وينتقي الألفاظ التي تليق بالمقام الرفيع لهذا الحبيب ويوظف اللامباشرة في توجيه خطابه لوطنه ؛ فقد كان الخطاب مبهماً . أهو لحبيب معشوق أم لمن ؟ ولم نتمكن من معرفة صاحب الخطاب إلا في البيت الرابع .تابع معي ما يقول الشاعر :
عمّق التحامه ببلده وأظهر معزتها عليه بخطابها (زرعتك) التي تحمل الكثير الكثير من المعاني : الحب والنماء, والاستمرارية والثبات .ومكان الزراعة والتربة الصالحة , شغاف قلبه ,فأرضه صلبةٌ لا يمكن نسيانها أو التفريط بها والالتحام بين حياتين أو عنصرين ,الأرض والإنسان .لقد كان لهذه الزراعة أثرها فقد سحرت حشاشة الشاعر من قوة الترابط ؛ فامتلكت أمره فأصبح يسير على هواها . لكنه يوظف كلمةً قوية منفية (لا أطيق ) ,وللكلمة ِ أبعادٌ عاطفية ٌ وفقدان إرادة . فهو لا يستطيع أن يجفى الوطن ولو ليوم واحد , فيطلب منه أن يكون رفيقه ليأخذه معه حيث يذهب .وهنا نقف على عمق لفظة تسري على سطح القصيدة التي تمثل الحركة ً السريعة في الجري والانتشار . لكن هذا السريان ليست على أرض ٍ أو مجرى ماء ولكنه على الشاعر باطنه وظاهره .
ويتبادل الشاعر الأدوار فيما بينه وبين وطنه ؛ ليؤكد قوة الاندماج بينه وبين وطنه فبدلاً من أنْ يرتدي التاج صار التاج يرتديه فبقول : (ولن أرضى كتاجك يرتديني )وهذا تعليل من نوع آخر على عدم قدرته على مفارقة الوطن, فهو المتحكم فيه فهو كظله لا يفارقه كما يلازم الظل الإنسان أو الشيء. وهنا يدخلنا الشاعر في متاهة الظل والرؤيا. فلا ظل إلا إذا كان الضوء . ولا أدري ماذا يقصد بالشموس ؟ أهي النور والإضاءة الحقيقية ؟ أم هي دلالات رمزية للحرية والعطاء والنماء والعدل ؟ فالشمس الحقيقية واجدة لكن في الجمع أشارات وانزياح عن المعنى الحقيقي ليدخلنا إلى المعنى الأدبي الضمني المجازي . وعلينا أن ننتبه لقيمة حرف الجر المضاف فحقاً ما يتنعم به الوطن من القيم سيكون انعكاسه وتأثيره جلياً على الشاعر وأهله .
وأرى البيت الخامس جاء مخالفاً لما ألفناه فيما سبق وكأن شاعرنا ضاق صدره ونقذ صبره , فكيف سيلقي الأشرعة ؟ وإلى أين إذا هو لا يطيق جفا الوطن ؟ وكذلك ستهرب قافيته وشعره . وهذا تلويح وتهديد للقائمين على أمر البلاد والعباد .
أما في البيت السادس فإنني أرى فلسفة ًخاصة بالشاعر وأمر مهم . فالقلب يحمل الكثير من المتناقضات في الحياة والتضاد كتضاد الألوان الأبيض والأسود وتضاد الصفات , وتضاد المذاق وتضاد المفاهيم ....الخ وهذا توسع مجازي لفضاء القصيدة؛ حيث يتركنا الشاعر في حيرة من أمرنا لمعرفة ما هما المتضادان اللذان جمع بينهما قلب الشاعر. لكنه يعود في التأكيد والاستدراك على ما يعتريه من ضيق الصدر إذا ما أبعد عنه الوطن وهنا يتبادل الشاعر الدور لفظاً لا معنىً ؛ فالغياب للإنسان لا للوطن لثباته وحركة الإنسان .
الشاعر صريح في طلبه بعدم السؤال عن رفاته بعد الموت إذا توفي خارج الوطن ,ودُفنَ في أرض الأعداء وهذا تلويح آخر بضرورة الحفاظ على أبناء الوطن وإيجاد الحياة الكريمة لهم .وهكذا يبين حسرته وتأوهه على تفريط الوطن بأبنائه ,ويتمنى أن يعود الأمن والأمان والعيشة الكريمة داخل وطنه. يود الشاعر بعثه وانطلاقه من جديد كما كان في زمن مجده وعزه .
القصيدة بها عناصر التجديد من حيث وحدة الموضوع ؛ فالفكرة واحدة جرت على كل القصيدة . والموضوع جديد فهو يتناول العلاقة الحميمة بين الإنسان العربي ووطنه وتمنياته أن يرى نفسه ينعم بوطن حر تسوده الحرية والعدالة .
ألفاظ القصيدة سهلة اللفظة قوية المعنى ,محبوكة السياق بعيدة عن الغريب وتنافر المعنى, ويظهر فيها الانزياح الذي يجمل المعنى ويجمله .
كما أن القصيدة تعالج خلجات النفس وتتحدث عن قضية آنية تمثل روح الشعب كله .
موسيقى القصيدة الخارجية جميلة مناسبة للجو النفسي للقصيدة وموضوعها فهي من البحر الوافر المناسب للبكاء والتأسي والندب مفاعلتن مفاعلتن فعولن لكل شطر واختار لقافيته الياء المناسبة للبوح والحزن ,المسبوق بالراء ذات الصدى المتكرر .
أعتبر ما كتبته حول القصيدة هو تنويه, وليست دراسة مستفيضة فالقصيدة كنز وبحاجة إلى الغوص في ألفاظها وتراكيبها وصورها وسياق أشطرها وأبياتها . والقيم التي تعج بها القصيدة. والموسيقى الداخلية لها بإمعان وبان كل الجماليات .
أشكر الشاعر الأديب الفذ الغني عن التعريف والذي تستوقفني قصائده بالإعجاب والاستملاح , لكنني عاجزة لقصور الوقت معي حتي نبين قيمة ما يشدو به هؤلاء لأفذاذ العظماء .
بقلم /هدى مصلح النواجحة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق