العدد السابع لسنة 2018
أدباء منسيون من بلادي / الجزء الثاني
الحلقة 14
إحسان
الملائكة
التقديم:
........
من بين الكتب التي قرأتها واستغرقت واستمتعت بقرائتها كتابا أنيقا
شكلا ومضمونا وكان أحد الكتب التي تحفل بها مكتبة والدي رحمه الله ألا وهو كتاب.. جلال الدين الرومي صائغ النفوس..لإحسان
الملائكة شقيقة الشاعرة العراقية نازك الملائكة .وقد تطرقت فيه إحسان الملائكة الى
تناول شخصيّة جلال الدين الرومي تناولا ابداعيا ركزّت فيه على الصوفيّة التي كانت
السمة الطاغية لهذه الشخصيّة الأدبية الفذّة .
وما أثار استغرابي وقتها إنّ هذا
الكتاب رغم قيمته الأدبية الكبيرة فإنّه
لم يطبع ببغداد وأثار فضولي
1987بالفعل الى معرفة السبب وراء ذلك.فسألت في حينها والدي
وكان ذلك في عام
ولأنه رحمه الله كان متابعا دقيقا
للحركة الأدبية في العراق فلم يبخل عليّ بإجابة فوريّة ماكنت أعتقد بأنّها يمكن أن
تكون هي الحقيقة الدقيقة لسببين مهمين أولهما بأن الإجابة كانت مثيرة للشفقة فعلا
على واقع وزارة ثقافة يمكن أن يفكر المسؤولين فيها تفكيرا أجوفا بالشكل الذي دعاهم
الى الإعتذار للكاتبة عن طباعة ونشر مؤلفها عن جلال الدين الرومي فقط لكونه فارسي
في الوقت الذي كان فيه العراق في حرب ضروس مع ايران دامت ثماني سنوات.هذا من جانب
ومن آخر هو اهتمام تلك الوزارة بالفعل بالمشهد الأدبي في البلد بصورة ملفتة
للنظر وكانت الوزارة في حينها قد خصصت
أموال طائلة لطباعة المنتج الثقافي العراقي والعربي على حد سواء حتى ان المشهد
الثقافي قد ازدهر فعلا في تلك الفترة من الزمن بغض النظر عن اهداف النظام الحاكم
وسياساته من وراء ذلك.
ومع ذلك فقد أخذت إجابة ابي رحمه مأخذا
حذرا حتى ثبت لي ذلك حين عثرت على معام قبر ابي نؤاس في مقبرة الجنيد البغدادي
وكان عبارة عن كومة من التراب وعليه لوحة طين كتب عليها هذا قبر ابي نؤاس.فلّما
سألت حارس المقبرة الطاعن بالسن عن عدم قيام الدولة ببناء قبر هذا الشاعر العظيم
أخبرني بأن ّ دائرة الآثار قد عاينت القبر وحددته وكتبت الى رئاسة الجمهوريّة
طالبة بناء القبر إلاّ انّ الجواب كان .. نحن لانبني قبورا للعجم.. حسب ماجاء على
لسان الرجل الذي كان يتحدث الي بمرارة وحسرة.
عندها فقط أخرجت إجابة والدي عن كتاب
إحسان الملائكة من مواطن الحذر الى مواطن اليقين. فانبرة واحدة والفكر واحد
والمصدر واحد. ولمّا شرعت اليوم ببحثي عن كلّ ماقيل وما كتب وما نشر عن إحسان
الملائكة وجدت بالفعل بأن منجزها عن الرومي قد تعرض لماتعرض له قبر أبي نؤاس وهذا
من خلال ماتطرق له العديد ممن كتبوا عنها رحمها الله.
لاأريد أن أطيل عليكم لكنّني وددت أن
اعلمكم بأن طبيعة ذلك الكتاب كانت هي حافزي الأول للبحث عن إحسان الملائكة بين كلّ
سطر من السطور التي كتبت عنها وبين كلّ فاصلة ونقطة في مقال ذكرت فيه علّني أعيد
لأمرأة اختارت العزلة على الظهور رغم عطائها الأدبي الثر .
ومن الله التوفيق.
علاء الأديب
تونس .. نابل
الولادة:
...............
هي احسان بنت ابي نزار صادق جعفر جواد المؤرخ
والشاعر واستاذ اللغة العربية، وابنة سلمى عبد الرزاق جواد الشاعرة الملقبة ام نزار
الملائكة، من مواليد حزيران 1925، تسلسلها هو الثاني بين سبع بنات وبنين اكبرهم نازك
المولودة في اذار 1923،
بعدها ولدت سعاد ثم نزار ثم عصام وهؤلاء
جميعا بمن في ذلك الوالدان، ولدوا في بغداد، جانب الرصافة بمحلة العاقولية الواقعة
خلف تمثال الرصافي بشارع الرشيد، اما لبنى وسها فقد ولدتا في الكرادة الشرقية.
البداية
:
..............
بدأت إحسان شاعرة حينما كانت في الصف الخامس
الثانوي فنشرت اول قصيدة لها وهي مقطوعة اسمتها (عيد النبيّ) لمناسبة المولد النبوي.
بعد ذلك ترجمت قصيدة من الشعر الانكليزي ونشرتها
لكن مزاجها لم يكن مع الشعر.
حيث أنّها كانت عقلانيّة أكقر من كونها
عاطفيّة حسب ماقالت عن نفسها في أحد لقاءاتها،
وقد وجدت ان مزاجها الهادىء العقلاني يتناسب
مع النثر اكثر من الشعر.
انها ترى كاتب النثر عقلاني على غير الشاعر العاطفي،
ثم انها كانت تؤكد دائما بأنها لا تمتلك موهبة الشعر.. وتستطيع النظم ولكنها لا تمتلك
الموهبة التي كانت تمتلكها شقيقتها نازك حيث موهبتها الشعرية قوية على حدّ تعبيرها
،وتؤكد بأنّ الوطن العربي مليء بالناظمين وليس بالشعراء، يعرفون الوزن لكنهم لا يمتلكزن
الموهبة، اغلب شعرهم بارد، وترى الوزن لا يكفي والشعر الحقيقي صعب جدا.
السياسة تقمع الأديب
.........................
بعد أن ألّفت إحسان الملائكة كتاباً عن الفيلسوف المتصوّف التركي
الإيراني “جلال الدين الرومي”، قامت بتقديمه إلى دائرة الشؤون الثقافية في بغداد عام
1985لغرض طباعته ونشره في بغداد فاعتذرت الدار عن نشره لكون إنّ العراق كان آنذاك في
حرب مع إيران ولكون إنّ ابن الرومي إيراني الأصل!! وفي العام ذاته قدّمت إلى نفس الدار
ترجمة لرواية روسية تتناول حقبة الستينات في إحدى ضواحي موسكو، إلا أن الدار اعتذرت
عن نشره لعدم تماشيه مع مستوى العلاقات السوفيتية العراقية آنذاك!
اللغة التركيّة والتصوّف التركي :
....................................
بدأت إحسان الملائكة وهي في الثامنة
والخمسين من العمر دراسة اللغة التركية بعد
أن أحالت نفسها إلى التقاعد عام 1980.
وسافرت لتقيم وعدد من افراد أسرتها في اسطنبول. وفي
عام 1983 نالت شهادة الدبلوم في اللغة التركية وآدابها من جامعة اسطنبول، وانكبّت على
ترجمة الأدب التركي، ثم انصرفت إلى توثيق تأريخ التصوف في تركيا بعد عودتها إلى العراق
نهاية العام نفسه. وألفت كتاباً عن الفيلسوف المتصوف التركي الإيراني جلال الدين الرومي،
وفي العام ذاته أقدمت على رواية روسية تتناول حقبة الستينات في إحدى ضواحي موسكو
لم توافق وزارة الثقافة العراقية على طباعة ونشر منجزيها لأسباب سياسية ضيقة.
ومن خلال ماتقدم نجد أن إصرار احسان
الملائكة على التعلم من أجل الإبداع لم يكن رهينا بإحباط أو عمر.
إحسان ونازك ..بين المؤثر
والمؤثر فيه :
................................................
تأثرت إحسان تأثرا كبيرا في طفولتها وصباها
وحتى في عنفوان الشباب بسحر نازك من دون قصد منها، وظلت نازك طوال سنوات عديدة النموذج الامثل الذي تقتدي به إحسان قولا وفعلا..
حتى بدأ العديد من معرفهم ينادونها باسم
نازك لكن أيا منهم لم يناد نازك باسمها.
وهذا يؤكد طغيان شخصية نازك على شخصية
إحسان في ذلك الحين.
وهذا هو حال تأثيرها على كل افراد عائلة الملائكة. وحين كانت
تستعيد إحسان ذكرياتها مع نازك تثب الى ذهنها طريقتها الممتعة في سرد الحكايات والقصص
حين كانت تجمع أخواتها واخوانها وتشرع في سرد
قصصها بأسلوب جذاب والمخيلة الواسعة العجيبة التي تمتلكها ، فأفكارها في حركة دائبة
واحاسيسها متدفقة خصبة ثرية. كانت نازك تفاجئ
الجميع دائما بأفكار لا تخطر على بال.. لما تمتلك من ذهن متقد وادراك وفهم عميقين.
هذا ماصرحت به إحسان في العديد من أحاديثها عن شقيقتها نازك وما أسندت اليه السرّ
في التأثر الكبيربشخصتها.
مما لايعرفه الكثيرون عن
إحسان الملائكة
................................................
ساعدت إحسان الراحلة “حياة شرارة”
في التقرّب من نازك وتأليف كتابها “صفحات في حياة نازك الملائكة”.
وقلّة قليلة تعرف إنّ إحسان الملائكة هي
التي تولّت كتابة مقدّمة أوّل ديوان لشقيقتها نازك الملائكة وهو “عاشقة الليل”
(1947).
كما أنها كتبت مقدّمة أوّل ديوان للشاعر السوري المعروف
“سليمان العيسى” وهو “مع الفجر” (1951)
بيت
الأمة العربيّة :
.......................
لقد أطلق جميع
أصدقاء عائلة الملائكة على بيت هذه العائلة بيت الأمة العربيّة لكونه كان البيت
الذي لايخلو ابدا من الضيوف العرب من شعراء وأدباء ومثقفين عرب إضافة الى ميول
الأب والأم القومي العربي ولقد انحدرت إحسان من تلك العائلة وذاك
البيت من أب شاعر وطني قومي غيور هو صادق جعفر جواد الملائكة ومن أمّ شاعرة وضعت قضية
فلسطين السليبة في مركز إبداعها ويشهد بذلك ديوانها: “أنشودة المجد” وهي سلمى عبد الرزاق
“أم نزار الملائكة”، كما أنّها شقيقة الشاعرة الرائدة المُجدّدة الخالدة “نازك الملائكة”
التي عُرفت أيضاً بكونها حالمة عظيمة مُترفّعة على دُهُم المجتمع والصغائر.
إحسان الملائكة وكتابها عن
الأدب السويدي:
..................................................
بصيص أمل من دار ضفاف: كتابها عن الأدب
السويدي المُعطّل منذ التسعينات
قامت دار ضفاف (الشارقة/بغداد) للطباعة
والنشر بطباعة ونشر كتاب أنجزته الراحلة إحسان الملائكة في التسعينات ولم ير النور
إلّأ الآن من خلال هذه الدار مشكورة، وهو “لمحات من الأدب السويدي” (170 صفحة من القطع
المتوسط) والذي تصف المؤلّفة أهميته بالقول في مقدّمة الكتاب
(دفعني للتأليف في موضوع الأدب السويدي،
خلوّ المكتبة العربية، بحسب علمي من أية مؤلفات حسنة فيه. كان ذلك هو أيضا الدافع الذي
حفزني في الماضي لتأليف ثلاث موضوعات مختصرات إحداها في أعلام الكتّاب الإغريق والرومان
(نُشر في بغداد عام 2001 عن دار الشؤون الثقافية)، والثانية في سير الكتّاب الإنجليز،
والثالث في مشاهير الكتاب الأتراك المحدثين)..وبتواضع وأخلاق علمية عالية تستدرك الكاتبة
لتقول إنّها تعترف بأنّ مادة هذا الكتاب لا يمكن عدّها تأليفاً بقدر ما هو إعداد واختيار
وتنظيم وترجمة. ومِنْ ثمّ فالآراء المبثوثة بين صفحات الكتاب ليست بالضرورة آرائي الشخصية
ولا أنا مسؤولة عما قد يُلحظ فيها احياناً من شطط أو تطرف ربما لا يستسيغهما القارئ
العربي). )
تستهل الكاتبة متن كتابها بنبذة تاريخية
موجزة عن تشكّل السويد دولة مستقلة منذ القرن السادس عشر وتغيراتها الدينية الحاسمة
ثم الجهود المبذولة في مجال الثقافة السويدية (الكلاسيكية منها والمسرح بشكل خاص) في
عصر النهضة وخصوصاً في عهد الملكة كرستينا التي كانت متهتكة ثم تحوّلت إلى الزهد وانزوت
في الفاتيكان.
سِيَر 21 أديباً سويدياً
.........................
بعدها بدأت إحسان الملائكة بتقديم سِير
21 كاتبا وكاتبة ممن تركوا بصمات مهمّة ليس على خارطة الثقافة السويدية فحسب بل الثقافة
العالمية أيضاً ومنهم : الأديب العالم كارل فون لينيه، شاعر المجون بيلمان، الشاعرة
الديمقراطية أنا ماريا لينغرين، رائدة الرواية الاجتماعية فردريكا بريمر، الكاتب الأسطورة
أوفست سترند بيرغ، الروائية العالمية سيلما لاغيرلوف، يلمار بيريمان، المخرج الشهير
إنغمار بيريمان، هاري مارتنسون، كيرستين ايكمان، زارا ليدمان.. وغيرهم..
كتبت إحسان الملائكةعن ثمانية من أدباء
وأديبات السويد قد مُنحوا جائزة نوبل التي تضاءلت كرامتها بمرور الزمن بألعاب وسفالات
السياسة الغربية والأمريكية وهم : سلمى لاغرلوف،
فرنر فون هايدنستام، إريك أكسل كارلفلت (حصل عليها بعد وفاته)، بار لاغركفيست، نيلي
زاكس، إيفند يونسون وهاري مارتنسون (مناصفة)، توماس ترانسترومر . وقد ذكرت الملائكة
سِيَر أربعة منهم في كتابها.
تحدّثت إحسان الملائكة عن نيلز الشخصيّة الكارتونيّة التي
سحرت الجميع :
........................................................................................
قالت إحسان :
من الغريب أن تنال رواية سيلما لاغيرلوف
[أوّل أديبة سويدية تنال جائزة نوبل] “مغامرات نيلز” شهرة عمّت أرجاء العالم، ونالت مكانة خاصة في نفوس
جيل المشاهدين العرب الذين شاهدوه كمسلسل على الشاشة الفضيىة في سبعينيات القرن العشرين،
مع أنها كُتبت أصلاً لتحقيق هدف تربوي لتلاميذ المدارس السويدية الصغار، وهو تقديم
المعلومات الجغرافية والتاريخية بصورة تُرضي أو تشبع خيالهم. تتلخص القصة في أنّ الولد
“نيلز″، يعاقب على كسله، وعلى رفضه زيارة الكنيسة في الأوقات المحددة، يُعاقب بأن يُمسخ
ويُحوّل إلى جِنّية عابثة، ويُكتب عليه، أن يَمتطي ظهر أوزة برية أنثى تطير به، وبصحبتها
رفيقها الذكر، عبر بلدان العالم في رحلة طويلة، عقاباً للجنيّة “” على أنّ رحلة نيلز الفضائية لا تبدو في عيون
الصغار غير نزهة تحريرية رائعة، ومن الواضح أن ذلك كان أيضاً قصد المؤلفة، فالصبي نيلز
إنّما تمرد، في الواقع على عقلانية عالم الكبار، حيث يجبر الأطفال على التقولب – في
صورة محددة، لا يستطيعون تحملها أو هضمها. من هذا فالرواية تحتمل تأويلات متباينة بحسب
وجهات نظر قرائها. ولا ريب أنّ موافقة ذكر الأوز الأليف لأنثاه في رحلتها الطويلة هو
جزء من ذكريات سيلما لاغيرلوف نفسها. ورحلة الخلاص التي يقوم بها الصغير نيلز، لابد
أن تكون رمزاً لحنين الكاتبة للتحرر من عزلتها الأليمة المفروضة عليها كأنثى، في المجتمع
البشري الظالم ذي المقاييس المزدوجة التي تقيم هوة لا قرار لها بين الجنسين. لقد شاءت
سيلما لاغيرلوف أن تحقق حريتها وخلاصها عن طريق خفقات أجنحة .
تصوّر أديبة كبيرة حائزة على جائزة نوبل
تكتب رواية للأطفال في حين “يترفّع” الكثير من كتّابنا عن الكتابة للأطفال برغم خطورة
هذا الحقل الأدبي المهم وترى أدب الأطفال يتحوّل إلى عملية شكلية ولا تخصّصية ويتقلّص
يوماً بعد آخر.
إحسان تقدم سترند بيرغ
وبيرغمان
.............................................
تطرقت إحسان الملائكة الى سيرتي مبدعين
كبيرين الأوّل هو “أوفست سترند بيرغ” الأسطورة الذي كتب الكثير من مسرحياته المترجمة
مثل المس جولي، الأب، رقصة الموت، موسيقى الشبح، الطريق إلى دمشق، والغرماء .. وغيرها
. كما عرفناه من خلال التحليل المهم الذي قدّمه لشخصيته ومنجزه كولن ولسن في كتابه
الفريد “المعقول واللامعقول في الأدب الحديث”. كما شاهدنا “الآنسة جولي” وقد حوّلتها
الممثلة السويدية “ليف أولمان” (شريكة المخرج العظيم انغمار بيرغمان) إلى فيلم سينمائي
رائع قامت بإخراجه. والثاني هو المخرج إنغمار بيرغمان والذي ترك بصمته في السينما العالمية
من خلال أفلامه الشهيرة مثل “التوت البري” و “فاني وإالكسندر” و”الصمت”. والإثنان
(سترند برغ وبيرغمان) قدّمتهما إحسان الملائكة بصورة وافية وممتعة.
إحسان والعزلة :
....................
لقد اختارت إحسن العزلة عن الناس
لأيمانها بأنّ الأديب لابدّ أن يكون مترفعا عمّا يمكن أن يخرجه من الطبيعة
السماويّة السامية التي يجب أن يكون مؤمنا بها ليكون أديبا حقا. وهذاما يتناقض مع الطبيعة الأرضية الحيوانية للسياسي
الذي يتسيّد في أغلب الأحيان مقادير الثقافة والأدب رغم جهله بهما والتعامل
معهما.وهذا مادفعت إحسان ثمنه غاليا شأنها شأن كلّ من نهج نهجها من أدباء ملتزمين محافظين
على كرامتهم وعلوية أنفسهم.
إحسان تتحدث عن ذكرياتها :
.................................................
لأكثر من قرن ونصف عاشت العائلة جيلا بعد
جيل في دار امتلكها الاجداد في محلة العاقولية وتتكون من بنايتين مزدوجتين، كانت تسمى
(الحرم والديوه خانة)، وكانت الدار في الاصل فخمة انيقة وواسعة، لكنها حينما ولدنا
فيها، اخواتي وانا، كانت قد تبدت عليها علامات القدم ومر الليالي، وما ازال اذكر غرفها
الواسعات بأسمائها الغربية والاعجمية : (الارسي) و(الرهرب) و(الجام خانة) ثم (الشناشيل)
فضلا عن (السرداب) والاجنحة التي تحيط بباحة الدار التي تتوسطها اشجار باسقات وبئرعميقة
في فوهتها بكرة ضخمة تلتف عليها حبال مفتولة تمسك بالدلو الذي يستخرج الماء من عمق
البئر، كان هذا الماء يستعمل للتنظيف فقط، اما ماء الشرب فيصل الى البيوت عن طريق شخص
يلقب ب(السقا) ولم تؤسس مديرية اسالة الماء الا فيما بعد فيما اتذكر، تلك ذكريات حضرت
في ذاكرتي، مع ان والدي غادر هذه الدار واصطحبنا (نحن افراد اسرته) لنعيش في دار بناها
بشارع (ابو قلام) سنة 1930 بالكرادة الشرقية، ولكن اسرة جدتي لأمي استمرت حتى 1939
حين قررت امانة العاصمة هدم بعض المنازل وبضمنها منزل العائلة من اجل شق طريق بين شارع
الرشيد وشارع الملك غازي (الكفاح) على ان محلة العاقولية مازالت ماثلة في موقعها حتى
اليوم وراء ساحة تمثال الرصافي، تلك الدار العتيقة ذات السقوف العالية المغلفة بالخشب
الملون الانيق و(الرازونات) التي تطرز جدران غرفها حيث تتلألأ المصابيح النفطية المجلوبة
من استانبول والثريات البلورية الضخمة المتدلية من سقوف بعض غرفها.. الخ..الخ، كل هذه
الصور تطفو ضمن احلامي عند النوم في كثير من الاحيان، ولاشك ان صلتنا الحميمة بأخوالنا
: انور وجميل ومنير الملائكة وزياراتنا الدائمة لهم فيها، هي المسؤولة عن عمق تلك الذكريات
في النفس،اما منزلنا في الكرادة الشرقية بمحلة (ابوقلام) فيقع وسط بساتين كثيفة عند
شاطيء دجلة، ولم يكن لنا من الجيران غير دار جدي لأبي الملاصقة لدارنا، ثم دار الرسام
شوكت الخفاف، ولم يكن شارع( ابو نؤاس) قد اسس بعد،كانت البيوت الواقعة على (السدة)
لا يفصلها احيانا عن النهر اكثر من متر واحد، وكنا ونحن نذهب الى المدرسة الابتدائية
للبنات في (البوليسخانة) تضطر الى الامساك بقضبان نوافذ بعض البيوت اثناء العواصف خشية
الوقوع في النهر.
وعن لقب الملائكة قالت إحسان
:
......................................
لقب الملائكة اطلقه على عائلتنا جارنا في
محلة العاقولية ببغداد الشاعر المعروف عبد الباقي العمري بسبب عدم صدور اية ضوضاء من
دارنا التي كان يعيش فيها عشرات الاشخاص كبارا وصغارا وكان يتساءل : هل اهل هذه الدار
ملائكة ام ماذا؟ وهكذا ذاع اللقب.
وعن طفولتها وعلاقتها
بالقراءة واتلمطالعة قالت إحسان:
..............................................................
عشت طفولة غير اعتيادية لأنني امتلك عادات
غير شائعة بين الصغار مثل الحرص على النظام والترتيب والمحافظة على الهدوء والقدرة
على التحكم في انفعالاتي، هذه الخصال كانت تمنعني من التمتع بطفولتي واللعب مع صديقاتي
في المدرسة.
أما عن القراءة والمطالعة لم يبدُ عليّ ميل للمطالعة عكس نازك التي
كانت متوجهة كليا نحو الثقافة ولا تفتأ تحثني على الاقتداء بها، لكن وقع التغيير في
ميولي وانا في الرابعة عشرة من عمري حين تملكني جو غريب من العشق لما كان يشاع في البيت
من اجواء الشعر، فكان والدي يقول الشعر في سياق الكلام وكانت والدتي تحفظ آلاف الابيات
الشعرية ولهذا تملكني عشق القراءة، وبدأت بقراءة المقالات الادبية والسياسية والروايات
والمجلات الثقافية، وحفزني جو البيت الذي كان اشبه بملتقى الادباء والمثقفين العراقيين
والعرب مما جعل الادباء يطلقون على بيتنا (بيت الامة) وهذا ما جعل الاجواء التي نعيشها
تغمرها حرية الفكر، وكنا نلتمس التحضر في معاملة والدنا حيث كان يصحبنا الى دور السينما
في الاربعينيات وكنا نلبس القبعات في الوقت الذي كان لباس المرأة السائد هو العباءة،
كان يصحبنا الى المحاضرات والاحتفالات الثقافية على الرغم من استنكار الاقارب والجيران
لهذه العادات.
وعن والديها قالت إحسان :
...............................
كان الابوان ابو نزار وام نزار الملائكة
يقضيان اغلب ساعات اليوم قرب مكتبة الوالد الذي اعتاد ان يقرأ للوالدة كل ما يهمه بصوت
مسموع، أي انه لا يقرأ لنفسه وانما يشركها في كل ما يقرأ وكانا يتناقشان في القضايا
الثقافية بأشد الاهتمام وتعلمنا ذلك منهما، كان كلاهما ذا مثل اخلاقية عليا، يزدريان
صغائر المتع الدنيوية ويؤمنان بأن الثقافة سلوك وان من لا يسلك السبيل الاخلاقي الجميل
لا يمكن ان يعد مثقفا حقيقيا، كانا اقرب الى الزهد والى روح القناعة الجميلة، وان الغنى
غنى النفس وليس غنى المال ومنهما تعلمنا عشق المثل العليا وحب الشعر والايمان بالفنون
الجميلة، كانا يلتهبان حماسا للوطن ويدعوان ويؤمنان بالوحدة العربية..وان هذا حديث
ذو شجون.
إحسان الملائكة : هذا
ماتعلمته من نازك..
...............................................
- تعلمت وفي عهد مبكر من حياتي ان ارفض تواف الحياة
اليومية ومشاغلها، ومع انها اخذت هذا الترفع عن الصغائر من الوالدين اساسا، الا انها
عرفت كيف تغرس عاداتها الجمياة والنبيلة في نفسي حتى صارت جزء من شخصيتي، كما انها
تركت في نفسي خصالا فاضلة مثل اتقانها لكل عمل تقوم به مهما كانت تعترضه من مصاعب ومشاغل،
والاهم هو استغلالها للوقت بشكل منظم مرتب، فكانت تحدد لكل ساعة من ساعات اليوم عملا
ثقافيا معينا، وتسجل ذلك في ورقة وتعلقها امامها كي لا تحيد عن نظامها، وعلى هذا النظام
الدقيق اخذت تفاصيل تنظيم حياتها كشاعرة، فتعلمت منها كتابة اليوميات وتخصيص دفاتر
للمختارات الادبية والشعرية والنثرية وتخصيص غيرها لأغاني كبار المطربين، وتعلمت منها
ترتيب الصور، وكانت نازك تمتلك مكتبة واسعة من المعزوفات العالمية كانت تستمع اليها
اثناء الكتابة والقراءة، ليشجع على انسيابية افكارها واستمرار تدفقها وفي بيتي حدث
الشيء نفسه.
شعر نازك أصدق من تحدّث
عنها:
...........................................
قالت إحسان عن شقيقتها نازك ..اصدق من تحدث
عن نازك شعرها، فهو المعبر الحقيقي عن ذاتها والمجسد الاصلي لشخصيتها ولها ابيات ترسم
صورة دقيقة لشخصيتها في القصيدة التي عنوانها ..انا.
الليلُ يسألُ من أنا
أنا سرُّهُ القلقُ العميقُ الأسودُ
أنا صمتُهُ المتمرِّدُ
قنّعتُ كنهي بالسكونْ
ولففتُ قلبي بالظنونْ
وبقيتُ ساهمةً هنا
أرنو وتسألني القرونْ
أنا من أكون?
والريحُ تسأل من أنا
أنا روحُها الحيران أنكرني الزمانْ
أنا مثلها في لا مكان
نبقى نسيرُ ولا انتهاءْ
نبقى نمرُّ ولا بقاءْ
فإذا بلغنا المُنْحَنى
خلناهُ خاتمةَ الشقاءْ
فإِذا فضاءْ!
والدهرُ يسألُ من أنا
أنا مثلهُ جبّارةٌ أطوي عُصورْ
وأعودُ أمنحُها النشورْ
أنا أخلقُ الماضي البعيدْ
من فتنةِ الأمل الرغيدْ
وأعودُ أدفنُهُ أنا
لأصوغَ لي أمسًا جديدْ
غَدُهُ جليد
والذاتُ تسألُ من أنا
أنا مثلها حيرَى أحدّقُ في ظلام
لا شيءَ يمنحُني السلامْ
أبقى أسائلُ والجوابْ
سيظَل يحجُبُه سراب
وأظلّ أحسبُهُ دنا
فإذا وصلتُ إليه ذابْ
وخبا وغابْ
إحسان
وحالة الرفض:
.........................
ليس سهلاً أن يواصل الأديب الكتابة والتأليف
مدركا أنّ مصير ما يكتبه هو رفوف مكتبته التي تغطيها الأتربة ويتآكل عيها وقع التواريخ.
وليس سهلاً أن يعرف الأديب أنّ ما يكتبه يتفوق إلى حد كبير على ما تعرضه المكتبات وما
تتناوله صالونات الأدب، ومع ذلك فإن دور النشر تمتنع عن نشره..
وليس سهلاً أن يكون الأديب موسوعة تستقي
معارفها من ثلاث لغات هي العربية والانكليزية والتركية ويرفض ناشرو الكتب مؤلفاته في
الغالب لأنها تتخطى بكثير حجم معرفتهم وتسيء إلى الواقع السياسي، كما يقولون. وليس
سهلاً عليّ وأنا نجل المبدعة الراحلة الأكبر أن أضع مشاعري جانباً في غمرة الفاجعة
لأكتب في رثائها سطوراً تعرّف القارئ بانجازاتها، التي لا يزال جلها ينتظر النشر ويحمل
رسالتها الإنسانية، التي عاشت وتوفيت لأجلها، إلى الملايين في عصر سرعة تداول المعلومات
الذي أدركته الراحلة في وقت صارت عاجزة فيه عن الإفادة منه. هكذا عاشت إحسان الملائكة
وهكذا رحلت بصمت عن العالم (كما رحل ويرحل ملايين العراقيين بصمت)، وحدها تتحدى ظروفاً
حياتية بالغة الصعوبة. مشكلتها أنها عاشت الكلمة (حيث درست الأدب وتخصصت فيه) والخط
واللون (حيث درست الرسم ولم تنل شهادة فيه) والنغم الجميل (حيث درست الموسيقى ولم تنل
شهادة فيها)، أكثر مما تعيش مع العالم. كانت حالمة كبرى لم تبتعد قط عن جزئيات واقع
الحياة اليومية لكنها لم تتقن قط فن مقاربة الناس ومخاطبة أصحاب القرار. طيلة ثلاثين
عاماً من العمل في مدارس بغداد لم تكن أبدا على وفاق مع مرؤوسيها، إلا أنها مع ذلك
خرجت أكثر من 6 آلاف طالبة إلى الجامعات العراقية وغيرها.
تاريخ الرفض
.................
خرجت إحسان الملائكة على تقاليد المجتمع
واختارت أن ترفض الحجاب أسوة بكل بنات أسرة الملائكة منذ أن كانت طالبة في دار المعلمين
العالية ببغداد بين أعوام 1945- 1949. لم يكن هذا سهلاً في أربعينات القرن الماضي،
لكنه صار أصعب في عراق التسعينات والألفية الجديدة، حيث بلغ المد الإسلامي مدى أبعد
في المجتمع وحيث اختار أغلب نساء العراق الحجاب وحتى بعض أخواتها من بنات المربي الكبير
المرحوم صادق الملائكة. وتوفيت إحسان وهي لم ترتد الحجاب قط. شاركت في تظاهرت اليسار
العراقي في ربيع الديمقراطية العراقية (مطلع خمسينيات القرن الماضي)، لكنها لم تنتسب
لأي حزب سياسي مدى حياتها، وظلت تعتبر السياسة لعباً على عقول البسطاء ينبغي على العقلاء
عدم الخوض فيه.
وفي تلك المرحلة الصاخبة نالت شهادة الكفاءة
في اللغة الانكليزية من المعهد الثقافي البريطاني. بعد قيام الجمهورية الأولى في العراق
في 14 تموز 1958 اقتربت كثيراً من خلال زوجها المرحوم الفنان التشكيلي علي الشعلان
من اليسار العراقي، لكنها سرعان ما اختلفت معه في كثير من التفاصيل وصارت تضع بينها
وبينهم مسافة يشوبها الاحترام والمحبة. وبعد سقوط الجمهورية الأولى عام 1963 عاشت الراحلة
مرحلة صعبة، تفاقمت فيها أوضاع العراق في منتصف الستينيات وحتى نهايتها، من هنا لم
تنجز في هذا العقد سوى كتابين، الأول ترجمة لرواية " الدينغو" عن الأدب الروسي
الحديث، ودراسة عن المتنبي وحياته.
لم تكن رهينة إرادة سياسية
....................................
كانت إحسان الملائكة حالمة كبرى لم تبتعد
قط عن جزئيات واقع الحياة اليومية لكنها لم تتقن قط فن مقاربة الناس ومخاطبة أصحاب
القرار.
ففي عام 1971 زارها في مسكنها ببغداد
كل من الشاعر الراحل حسين مردان والشاعر الكبير سعدي يوسف وعرضا عليها أن ترشح لرئاسة
اتحاد الأدباء في العراق، إلا أنها رفضت الفكرة مدركة أنّ مشكلتها الدائمة في مقاربة
الناس ستصطدم بمتطلبات هذا المنصب فاعتذرت عنه.
السبعينات من القرن الماضي
عصر ابداع إحسان
.........................................................
شهدت سبعينيات القرن الماضي إحدى أهم مراحل
إنتاجإحسان الملائكة الأدبي حيث أنجزت كتاب
"المتنبي في مرآة عصره" وهي دراسة نقدية تسلط الضوء على جوانب من شعر المتنبي
وحياته لم يسبقها إليها أحد. كما أنجزت كتاباً عن التصوف في شعر أبي العلاء المعري،
وكتاباً عن الطرديان في شعر البحتري، وآخر عن الحماسة عند أبي تمام. ثم ترجمت عن الانجليزية
كتاباً يعرض نظرية جديدة لنشوء الكون أسمته "عربات الآلهة"، ونشرت فصولاً
منه في مجلات: الآداب اللبنانية والمعرفة السورية والأقلام العراقية.
في الثالثة والثمانين من
عمرها أدركت إحسان عالم الأنترنيت
.......................................................................
وبعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003
وانفتاح العراق على الإعلام والصحافة والإنترنيت، اقتنت الراحلة كومبيوتراً جديداً
مع ملحقاته وبدأت منذ عام 2008 تتعلم استخدامه وهي في الثالثة والثمانين من عمرها.
وكانت تقول إنها تريد أن تتصل بالعالم من خلال هذا الاختراع العظيم، إلا أن ضعف
بصرها حال دون مواصلة رحلة التعلم الأخيرة لها، فاكتفت بتصفح المواقع، من خلال
صديقة لها كانت تقضي لياليها في بيتها وتقرأ لها ما تنتخبه هي من مقالات. ظلت تكتب
في صحيفة "المدى" حتى منتصف عام 2009، وبعد أن انطفأ بصرها لم تعد
تستطيع الإبداع، فانقطعت عن "المدى" وانقطعت "المدى" عنها.
وتوالت النكبات والآلام على إحسان،
وفاة الأديبة إحسان الملائكة
.....................................
أصيبت إحسان الملائكة في كانون الأول /
ديسمبر عام 2009 بجلطة دماغية أقعدتها عن الحركة وعطلت حواسها، لتعيش بروحها
الطرية المرهفة مثل ملاك.
وفي مساء يوم الجمعة (23 نيسان/ أبريل
2010) فارقت الحياة، تاركة خلفها تاريخ طويل من الإبداع والألم وخمسة عشر مؤلفاً
غير منشور، ومذكرات مفصلة في 20 كراساً، تعد أرشيفاً أدبياً سياسياً اجتماعياً
لستين عاماً صعبة من تاريخ العراق الحديث.
رحلت إحسان الملائكة ولم تقم على روحها
مراسم الفاتحة، واكتفى اقرباؤها بمراسم عزاء صغير للسيّدات انتهى في السادس
والعشرين من نيسان/ابريل 2010 ليخيّم صمت مطبق على الدار التي عاشت فيها أعوامها
العشرين الأخيرة وتبقى النخلتان الهرمتان أمام نافذة مكتبها تذكران تأملاتها
وآمالها وهي تقاوم تكلس وحدتها وعزلتها المُرّة.
المصادر
:
...........
مقال الكاتب حسين سرمك حسن.
مقال ملهم
الملائكة..نجل إحسان الملائكة.
مقال الكاتبة
وقار هاشم
حوار الأديبة
مع الأستاذ جبار العتابي
كتاب جلال
الدين الرومي صانع النفوس للأديبة إحسان الملائكة
كتاب لمحات من
الأدب السويدي للأديبة إحسان الملائكة.
تقبل الله أديبتنا الراحلة
وتغمدها بواسع رحمته.
وإلى لقاء مقبل
مع
أديب منسي اخر من بلادي
علاء الأديب
تونس ..نابل
18/ 7/2018
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق