مجلة صدى بغداد
العدد السادس لسنة 2019
القائد المنهزم..قصة قصيرة
بقلم/ الكاتب السوري محمد فتحي المقداد
لم أستطع معاندة تطفّلي على الصديقيْن الجالسيْن على طاولة تجاورني مسافة متريْن فاصلة بيننا، حديثهما حين يعلو ويحتدم النقاش بينهما؛ يصل مسمعي بسهولة، والمشكلة التي تُحرّقني عند خُفوته، مما يضطّرني لاستجماع كافّة قُدراتي في استراق السمعَ الذي أقلعت عنه لفترة من الزّمن، بعد تأنيب ضميري؛ عندما أدركت وَضَاعة تصرّفي البسيط حدّ الحماقة.
- يا إلهي..! هذه ليست أخلاقي البتّة، لم أدرك حقيقة ما دهاني، نصائح أستاذ التربية الإسلاميّة تردّد صداها الآن، بنبرته التي كانت مُحبّبة إلى قلبي، خاصّة عند شرحه لآيات من سورة الحُجُرات.
وها أنا أخالف، ولا تجسّسوا، لم يُكلّفني أحد بمراقبتهم، وإحصاء أنفاسهم عليهم، وتسجيل كلامهم، وتجميع وتحليل ما استطعت الوصول إليه، واستخلاص زبدته لأبني عليها موقفًا اتكّسب من عند تسطيره على ورقة بيضاء. ربّما تتغيّر مجريات حياتهم، وتنقلب رأسًا على عقب. ويذهب بهم الشّراع إلى غير ما يشتهون ويأملون في حياتهم.
***
الشخص ذو القميص الأبيض، فهمتُ من كلامه لصديقه الغارق وسط هُيولى دخان نرجيلته، ملامحه بَهُتَت، صورته تتلاشى شيئًا فشيئًا، ثمّ تتّضِح لحظات، انطبعت كلّ وضعيّاته في مُخيّلتي، لا يمكن انمحاء صورته من ذهني ولو طال الزّمن.
- "الفارس المنهزم".
- ذو القميص الأبيض: يا صديقي الفارس لا ينهزم من تلقاء نفسه، بل يُهزَم.
- هُزِم أم انهزم المبدأ واحد. لا فرق بين الحالتين.
- ذو القميص الأبيض: في الحقيقة فأنّ القائد له أن يتّخذ قراره بالانسحاب التكتيكيّ حفاظاً على كرامته، ولتجنّب كارثة أكبر.
- المُصيبة في طريقة عرض كيفيّة الانهزام، فقديمًا خسر العرب فلسطين، فقالوا نكبة، وفي هزيمة نكراء خسروا فيها الجولان وسيناء والضفة الغربية، فوصفوها بالنكسة، ولك أن تتخيّل يا صديقي برمجة العقل العربي الذي سرعان ما ينسى.
***
عيناي تدوران كلولب في جميع الاتجاهات بلا تركيز، نوبة قلق ساورتني، ملامح وجهي فضحت مخبوء دواخلي، احمرار وجهي كان كإشارة ضوئيّة تُجبر السيّارات تتوقّف، عيونهما انسحبتا من حيّزهما، لتتفرّس ملامحي، وكأنهما اكتشفا تطفّلي على حديثهما. متأكّد أنّهما يجهلان سبب ارتباكي غير المُبرّر لهما.
ساورتني شكوك كادت أن ترتقي حدّ اليقين في قلبي، أنّهما قرأا صفحة وجهي المضطربة.
وكيف ستكون نظرتهم لي؟
وماذا سيقولون عنّي، وهما يسيئان الظّنّ بي، وتصنيفي في خانة المُخبرين، وليس المُتطفّلين؟.
من غير تردّد غادرا المكان، لحق بهما النّادل، وهو يصرخ عليهما ليلفت انتباه أحدهما على الأقلّ: "يا أستاذ". أدركهما على الرّصيف المقابل من الجهة الأخرى للطريق ذي الاتّجاهيْن.
وأنا مستغرق بصورة الفارس المنهزم، وكيف انهزم، توارد أفكاري أخذني في متاهات من التحليلات والتأويلات والمُبرّرات، غبتُ عن محيطي، والنادل يعلو صوته لتجهيز طلبات الزبائن من زميله هناك خلف الطاولة، أحضر لي فنجان قهوتي المعهود، فشربته باردًا بعد ساعتين، عندما رجعت من رحلة متاهة الأفكار. وما الغرابة في انهزام القائد؟.
عمّان – الأردن
9 / 4 /2019
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق